وهذا الحديث معضلٌ، قال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -: «هذا الحديث لا يُروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالكٍ هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة وأحاديثُ شتى جمعها مالك» (3)، ثم تناول الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - الحديث ببيان جميع شواهد فقراته ما عدا تلك المتعلقة بالدفن عند المنبر فلم يذكر لها ما يشهد لها بالصحة.
وقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قال أبو بكر أين يدفن رسول الله - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -؟ قال قائلٌ منهم: عند المنبر، وقال قائل منهم: حيث كان يصلي يؤمُّ الناس، فقال أبو بكر: بل يدفنُ حيث توفى الله نفسَه، فأخَّر الفراش ثمَّ حفر له تحته» (4).
وسنده ضعيفٌ لإرساله، فأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبي بكر، «قال أبو زرعة: هو عن أبي بكر مرسلٌ» (5)، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب كانت ولادته في خلافة عثمان ولم يسمع من أبي بكر (6)، ومحمَّد بن عمرو بن علقمة صدوقٌ له أوهام (7).
والحديث رواه محمَّد بن إسحاق موصولاً، أخرجه ابن ماجه في «السنن» (8) والبزار (9) وأبو يعلى (10) والبيهقي في «دلائل النبوة» (11)، وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (12)، وابن هشام (13)، وابن كثير (14) قال: «حدثني حسين بنُ عبد الله عن عكرمة عن ابن عباسٍ قال: .. وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - يقول: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ».
والحديث ضعيف لأنَّ في سنده حسين بن عبد الله بن عبيد ضعَّفه ابنُ معينٍ والنسائي وأبو زرعة والبخاري، وكثيرٌ من أهل الحديث لم يحتجوا بحديثه (15)، والحديث ضعَّفه الألباني (16).
وتابعه من هو دونه وأوهى منه، قال السيوطي: «وصله ابن سعد من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة» (17).
قلت: فقد رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عمر، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحُصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما فرغ من جهاز رسول الله - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - يوم الثلاثاء وُضع على سرير في بيته، وكان المسلمون قد اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه بالبقيع، قال أبو بكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ»، فرفع فراش النبي - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - الذي توفي عليه ثم حفر له تحته» (18).
وسند هذا الحديث ضعيف جدًّا، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيف وعنده مناكير (19)، وداود بن الحُصين ثقة إلا في عكرمة ورمي برأي الخوارج كما صرح ابن حجر في «التقريب» (20)، ومحمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي هو الواقدي متروك الحديث، فلا يصلح هذا الطريق لا في المتابعات ولا في الشواهد.
ولا يشفع لحال الواقدي إسناده الآخر الذي ذكره الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: «قال الواقدي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمَّد الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيد قال: لما توفي النبي - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - اختلفوا في موضع قبره، قال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم، وقال قائل: عند قبره، وقال قائل، في مُصلاَّه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرًا وعلمًا، سمعت رسول الله - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - يقول: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ» (21).
وهذا الحديث مرسل، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي لم يدرك أبا بكر، وفيه الواقدي كما ترى.
وأمَّا طريق ابن هشام بن عروة فليس فيه ذكر لمحلِّ الشاهد.
هذا، والناظر في مجموع طرق الحديث يدرك أنَّ الطريق الأول وإن كان ضعيفًا من جهة الإرسال وليس فيه تهمة في صدق الراوي وديانته إلاَّ أنَّ الطرق الأخرى لا تخلو من ذلك , فإنَّ طريق عكرمة عن ابن عباس فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس تركه أحمد وله أشياء منكرة، وقال النسائي: متروك، وتركه البخاري، وقال: يقال إنه متهم بالزندقة (22).
أمَّا الطريق الثالث ففيه إبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف له مناكير، وفيه الواقدي متروك الحديث، وكذا الطرق الأخرى.
وعليه، فلا يتقوى الحديث بكثرة طرقه مهما تعدَّدت؛ لأنها ناشئة من تهمة في صدق الرواة ودينهم، وإنما يرتقي ويتقوَّى بكثرة الطرق إذا كان ضعف رواته في مختلف الطرق ناشئًا من جهة سوء حفظهم كما نبَّه إليه أهلُ الحديث.
هذا، وعلى فرض صحة الأثر فإنَّ قول القائل: «ندفنه في مسجده» أو «عند المنبر» معارض بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لما نزل برسول الله - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبْرِزَ قبرُه، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا» (23).
والمرادُ أنه لولا تحذير النبي - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم - ما صنعوا ولعن مَن يفعل ذلك لدفن خارج بيته، غير أنه خَشِي [أي النبي - صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -] أن يُتخذ قبرُه مسجدًا على رواية الفتح، أمَّا «خُشِيَ» على رواية الضم فهي خشية واقعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا تعارضها روايةُ عائشة - رضي الله عنها -: «غير أني أخشى»؛ لأنَّ إخبار وقوع الخشية من فرد لا ينافي وقوعها في مجموع الأفراد.
الرد مأخوذ من رد د. محمد علي فركوس على أحد القبورية
¥