وما روي عن قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ» فالفجر فجران كما تقدم ومراده بالذي يملأ البيوت هو الذي ينفجر فيملأ البيوت نورا معترضا احمرا, وهو ما يسمى بالفجر الصادق , وبهذا التوجيه تجتمع الأدلة.
وثالثا: يحتمل أن المراد من هذا الأثر أنهم كانوا يتثبتون من طلوع الفجر الصادق , ولم يعتمدوا على الظن والشك, حتى ينفجر الفجر فيملأ البيوت والطرق.
وأما تعليلهم:
بأن في الإجماع حجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها.
نقول أيضا الإجماع وقع على أن الصيام يبدأ من الفجر الصادق.
وقد ناقش هذا التعليل إمام المفسرين الطبري فقال:
(وفي قوله تعالى ذكره:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل" أوضحُ الدلالة على خطأ قول من قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.
فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ، قيل له: أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار؟
فإن قال: إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة.
قيل له: وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهارُ من طلوع الشمس.
قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها.
ويقال لقائلي ذلك إن كان"النهار" عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده -فكذلك عندكم"الليل": هو تتامُّ غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟
فإن قالوا: ذلك كذلك!
قيل لهم: فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!
فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه -الخطأُ والسهوُ، [وكفى بذلك شاهدا] على تخطئته.
وإن قالوا:"بل أول الليل" ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا.
قيل لهم: وكذلك"أول النهار": طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل.
ثم يعكس عليه القول في ذلك، ويُسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.)
الترجيح:
فبعد عرض المسألة بأقوالها, وأدلة كل قول, ومناقشتها, يتبين لكل منصف متجرد للحق أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح وبه انعقد الإجماع: أن الإمساك يجب بطلوع ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة، وأدلتهم صحيحة صريحة واضحة الدلالة لا يماري فيها إلا جاهل أو صاحب هوى.
وأما القول الثاني على جلالة قائليه قول ضعيف, مخالف لظاهر وصريح النصوص من الكتاب والسنة , وعمدتهم حديث حذيفة وهو حديث معلول , وإن سلم من العلة –جدلاً- لا يدل على ما ذهبوا إليه وقد تقدم مناقشته , وأيضا اعتمدوا على آثار رويت عن جماعة من الصحابة , وإن كانت لا تجاري النصوص من الكتاب والسنة الظاهرة البينة الصريحة, فهي أيضا لا تدل على ما ذهبوا إليه وقد تقدم الكلام على هذا , وزد على هذا أنه قول مهجور ليس عليه العمل عند أهل العلم , مخالف للإجماع.
قال الإمام الشافعي بعد أن ذكر هذا القول: (وليسوا ولا أحد علمناه يقول بهذا إنما السحور قبل طلوع الفجر فإذا طلع الفجر فقد حرم الطعام والشراب على الصائم)
وقال الإمام ابن كثير: (وهذا القول ما أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقر له قَدَم عليه، لمخالفته نصّ القرآن)
الخاتمة
يا ناظر الخط فاستغفر لمن كتبا * * * فقد كفتك يداه النسخ والتعبا
وقل إذا نظرت عيناك أحرفه * * * يا رب فاغفر له وارزقه ما طلبا
¥