رغم أن المذهب الشافعي بالأندلس أخذ به الأكابر؛ فإنه لم يعرف ذيوعاً وانتشارا، ولازاحم المذهب المالكي مزاحمة قوية، وذلك لأسباب أذكر بعضها:
1 - مقتل الأمير عبد الله ابن الناصر، الشافعي المذهب، الذي بلغ من ميله إلى فقهاء الشافعية بالأندلس أن تآمر على أبيه مع نفر منهم، مما سار به إلى حتفه مع اثنين من أعلامهم. وكان لذلك أثر سيء على المذهب الشافعي في الأندلس، إذ توقف امتداده وانتشاره، وقد علمنا ما لقوة السلطان من أثر في انتشار المذاهب وذيوعها، ولو كتب للأمير عبد الله -الفقيه الشافعي- تولي الخلافة، لكان للفقه في الأندلس وجه آخر.
2 - عدم اهتمام الشافعية بنشر مذهبهم، ونصرته والدفاع عنه.
3 - تضييق الفقهاء المالكية على أتباع مذهب الشافعي بالأندلس، فإنهم كانوا لا يحتملون ظهور مذهب غير مذهب مالك، مذهب أهل البلد.
4 - تحرج فقهاء المدرسة الشافعية بالأندلس من مخالفة ما عليه الناس في الفتوى والعمل، فإمام الشافعية بالأندلس نفسه قاسم بن محمد بن سياركان يفتي بمذهب مالك رغم شافعيته، وكان يتحفظ كثيرا من مخالفة المالكية كما يقول القاضي عياض، وكان أحمد بن بشر التجيبي القرطبي المتوفى 328 إذا استفتي يقول: أما مذهب مالك فكذا وأما الذي أراه فكذا.
5 - إعراض فقهاء الأندلس عن جميع المذاهب غير مذاهب مالك حتى أن محمد بن عمر بن لبابة كان يثني على هارون بن نصر القرطبي الشافعي المتوفى سنة302هـ ويقول: ليس يدري أحد من هذا البلد ما يقول هذا، يعني في الفقه.
6 - لم يتح للشافعية من المناصب الكبرى في الدولة ما يمكنهم ويساعدهم على نشر فقه إمامهم وإذاعة مذهبه بين الناس، فقد انفرد الفقهاء المالكية بتسيير نظام الفتوى والقضاء، وكانوا لا يولون ذلك إلا من كان مالكيا كما تقدم.
هذا بحث مقتضب استعرضنا فيه المذاهب التي انتشرت وذاعت في الأندلس، وعلا شأنها، غير أن هذا لايعني عدم وجود المذاهب الأخرى، فقد كانت موجودة، لكنها لم تجد تربة خصبة، ولذا عاشت مهجورة حتى انقطعت عن قريب.
المذاهب الفقهية الأخرى بالأندلس
لقد قدر لبعض المذاهب الفقهية الأخرى أن تدخل بلاد الأندلس بأخرة على يد بعض الغرباء والرحالين، غير أنها لم يكتب لها الذيوع والانتشار، فماتت بموت أصحابها وهذه حقيقة كثيرا ما تجاهلها البحث العلمي، ولم يرد الخوض في تفاصيلها، حتى أصبح من المسلم به لدى الجميع أو الأغلب، أن الأندلس لم تعرف إلا المذهب المالكي وحده، وأن الأندلسيين كانوا جميعا مالكية، وهذا يتنافى مع الحقيقة، ويصادم شواهد التاريخ.
أ- المذهب الحنفي بالأندلس
قال القاضي عياض:"ودخل منه شيء- أي مذهب أبي حنيفة-ما وراء افريقية من المغرب قديما، بجزيرة الأندلس وبمدينة فاس" وقال في موضع آخر: "وأدخل بها - أي الأندلس- قوم من الرحالين والغرباء شيئا من مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وداود فلم يتمكنوا من نشره، فمات بموتهم، على اختلاف أزمانهم إلا من تدين به في نفسه، ممن لايؤبَهُ لقوله، على ذلك مضى أمر الأندلس إلى وقتنا هذا".
وكلام عياض هذا ينطبق مطابقة تامة على المذهبين الحنفي والحنبلي اللذين ندر أتباعهما في الأندلس دون غيرهما من المذاهب التي كان لها ذيوع وانتشار وأتباع كما بسطنا القول في ذلك.
ومن الأندلسيين الذين تذكر كتب التراجم والتاريخ أنهم اعتنقوا هذا المذهب الفقهي: زيد بن بشير الأندلسي الفقيه على مذهب الكوفيين الذي روى عنه سليمان بن عمران قاضي المغرب، ولقد عرفه الامام أبو جعفر الطحاوي الحنفي وأثنى عليه.
ومن الغرباء: أبو هاشم محمد بن الفضل بن عبيد الله ابن قُتُم القرشي العباسي الذي قدم الأندلس تاجراً سنة 422، وكان بغداديا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وكان صحيح العقل، حسن الخلق، فصيح اللسان، من أهل الفضل والثقة.
ومنهم أبو موسى عيسى بن محمد بن هارون بن عتاب النسفي الأستاذ، قدم اشبيلية تاجراً مع أبيه محمد سنة 422هـ، قرأ القراءات على أبي طاهر البغدادي المقرىء، وسمع عليه تواليفة. وكان من أحفظ الناس لأخبار العلماء، وأميزهم بالتعديل والتجريح، وكان حنفي المذهب ثقة فيما رواه، روى عنه من الأندلسيين ابن خزرج.
ب- المذهب الحنبلي بالأندلس
دخل بعض الحنابلة من الغرباء إلى الأندلس بأخره، ولم أجد ذكراً لأندلسي حنبلي المذهب، ولعل السبب أن الامام أحمد لم يشتهر عند الأندلسيين اشتهار الامام أبي حنيفة، فحتى في الموسوعات الفقهية الأندلسية كالتمهيد لابن عبد البر والمحلى لابن حزم لانكاد نجد له ذكراً إلا لماماً، وقد يكون السبب أيضا ما شاع من أن ابن حنبل كان محدثا ولم يكن فقيها.
ومن الغرباء في هذا الباب الذين دخلوا الأندلس، وأخذ عنهم بعض أهلها: سالم بن علي بن ثابت بن أبي يزيد الغساني اليماني، قدم الأندلس مع ابنه تاجراً سنة 416هـ، وكان من خيار المسلمين؛ على طريقة قويمة من المتسننين، حنبلي المذهب، وكان ذا رواية واسعة عن شيوخ بلده وغيرهم، حدث عنه من أهل الأندلس أبو محمد بن خزرج وقال: أخبرنا أن مولده سنة 341هـ وأنه ابتدأ بالسماع مع العلماء سنة360هـ.
ومنهم عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن بن شجاع المرْوزي، كان فاضلا دينا، حنبلي المذهب، متفننا واسع الرواية، قديم الطلب، وكان عالماً بالعربية على مذهب الكوفيين، وله تأليف في النحو على مذهبهم سماه "الابتداء"، وله كتاب مختصر من علم أبي حنيفة في سبعة أجزاء، واسمه "المغني"، سمع منه من الأندلسيين أبو محمد بن خزرج وأجاز له في صفر سنة 424هـ، وأخبره أن مولده سنة 348هـ قال: وكان متمعا بذهنه وجميع جوارحه.
انتهى
منقول
لعله من كتاب المدرسة الظاهرية بالمغرب والاندلس.
رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين بتطوان.
للدكتور / توفيق الغلبزوري الإدريسي
إشراف العلامة إبراهيم بن الصديق الغماري الحسني
تقدبم الشيخ العلامة محمد بو خبزة التطواني الحسني
تقع في ألف صفحة.
نشر دار ابن حزم ـ الرياض.
¥