تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وليكن عندك الفرح أن تقول في المسألة: الله أعلم، أكثر من فرحك أن تجيب عليها؛ لأنك إن قلت: الله أعلم، فقد سَلِمْتَ وسَلِمَ الناسُ منك، وإن قلت فيما لا علم لك فقد تحملت المؤونة ([92])، ولذلك قال بعض السلف: حق على من أفتى أن يقيم نفسه بين الجنة والنار، فينظر سبيله فيها، حق واجب وفرض عليه.

ولذلك كان من الداء والمقتلة للإنسان أن يجيب في كل ما سئل عنه؛ لأنه لا بد أن تكون هناك مسائل لم تطمئنّ بعد إلى قول فيها وتفتي به. قال ابن عباس وابن مسعود فيما أثر عنهما: (من هذا الذي يجيب الناس في كل ما سألوه أمجنون هو ([93]) أي: لا عقل عنده.

كذلك من الورع أن يكون على علم وبصيرة بالسؤال، فلا يفتي في مسألة حتى يكون ملمّاً بأطراف السؤال الذي نزل بك، فلا تحكم على شيء إلا بعد تصوره.

ولذلك من القواعد التي قررها العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فلا تدخل ولا تبدي رأيك في أمر لم تتصوره بعد، تنتظر حتى ينتهي السائل من سؤاله فتنظر أهذا السؤال مما تعلمه، فتجيب، أم مما لا تعلمه، فتكفّ عنه، وتتورع عنه.

المَعْلَمَ الرابع: معرفة المصالح والمفاسد المترتبة على الفتوى:

فقد تكون الفتوى من علمك، ولكن الجواب فيها يحدث مفسدة عظيمة على الأمة، فتتلطف وتحسن المخرج منها بجواب تعذر فيه إلى الله، ومع ذلك لا تقع الأمة به في فتنة.

ولذلك نبّه العلماء على أنه من آكد ما ينبغي على المفتي أن ينظر إلى أثر فتواه، فكم من فتاوى يسمعها العوامّ فيحملونها على غير المحامل، ويُحمّلون كلامها من التفسير ما لا تحتمل، فليس المهم أن تعرف المسألة وتعرف حكمها فقط، ولكن الأهم أن تعرف ما الذي يترتب على هذا السؤال؛ لأن الله بعث الرسل، وأنزل الكتب من أجل المصالح ودَرْء المفاسد.

فإذا أصبحت الفتوى تفضي إلى المفاسد، وتقطع عن العباد المصالح فليس ثم ما يوجب ذكرها في هذه الحالة الضيقة المخصوصة.

واقرأ في تراجم العلماء والسلف الصالح كيف كانوا يمتنعون في مواطن الفتن عمّا فيه مفسدة، فلا تجيب بين العوام إذا سئلت عن مسائل تورث عندهم الفتنة والشبهة ولا تحسن منها المخرج، فتشوش عليهم بذكر شيء أنت معذور في تركه أمام الله جلّ وعلا.

ولذلك قالوا: يحتاج المفتي إلى أمرين:

أ- علم الفتوى.

ب- فقه الفتوى.

فعلم الفتوى من ناحية المادة، وفقه الفتوى أن يلازم العلماء ويدرس فتاوى السلف الصالح والعلماء المهتدين، وكيف كانوا يحسنون التخلص من مواطن الفتن.

المَعْلَمَ الخامس: تحصيل الخشية من الله عز وجل:

وهو الأساس العظيم للتوفيق والتسديد في الفتوى، فكل مسألة في الدين والشريعة تتكلم فيها، فاجعل الجنة والنار نصب عينيك، تخاف الله، لا تخاف أحداً سواه، ترجو رحمة الله ولا ترجو شيئاً عداه.

ولذلك قال بعض العلماء: لن يوفق الإنسان لتبليغ رسالة الله إلا بالخشية، وكلما وجدت الإنسان يصدع بالحق، ويقول الحق، ويأمر بالحق، ويهدي إلى الحق، فاعلم أن في قلبه من خشية الله على قدر ما وجدت فيه من الصدق والتبليغ لرسالة الله.

وكلما وجدت المفتي يبيّن حكم الله جل وعلا، ويُجّلّي الحقائق على أنصع ما تكون وأظهر ما تكون وأوضح ما تكون، فاعلم أن في قلبه من خشية الله على قدر ما وجدت من آثار فتواه من الوضوح.

((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ)) [الأحزاب:39]. قال بعض العلماء: إن الله قرن الخشية بالتبليغ للرسالة والأداء للأمانة، ولذلك لن يستطيع طالب علم أن يبلغ أمانته إلا بقوة خوف من الله، وكلما كمل خوفه كمل تبليغه لرسالة الله.

وانظر إلى حال طلاب العلم تجد ذلك جلياً ظاهراً، فبمجرد ما يرجع الشاب أو طالب العلم إلى قريته أو إلى بلده، وقلبه معمور بالخوف من الله، أن يسأله عن هذه الأمة، ويحاسبه عن هؤلاء القوم، وتجده على خوف ووجل، وجدته ناشراً للعلم، باذلاً له، فيخرج الخوف من الله ما عنده من العلم.

فتبليغ رسالة الله والفتوى عن الله والإخبار عن الله يحتاج إلى شيء من الخوف والخشية والمعاملة لله سبحانه وتعالى.

والذي يَجبن ويَضعف، ويهاب الخلق أكثر من هيبته للخالق، ويخشى المخلوق أكثر من خشيته للخالق، فإنه لا يأمن أن يحرف دين الله وشريعة الله، نسأل الله السلامة والعافية.

المَعْلَمَ السادس: التأني في فهم السؤال وتصوره:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير