وصيةُ العلامة ابن زكري الفاسي لطلبة العلم وشيوخه.
ـ[السنافي]ــــــــ[07 - 06 - 07, 09:53 م]ـ
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحابته وبعد.
فهذ وصية الشيخ ابن زكري الفاسي (1) للطلبة والشيوخ، استخرجتُها لكم من موسوعته النحوية شرح فريدة السيوطي .. و والله لقد تأثرتُ بكلامه ودقة وصفه، فكأنه يعيش بيننا اليوم، ويبصر ما استقرَّت عليه الأمور والأوضاع العلمية!
فطرائق العلم وسبله في عصرنا الخلَفي كثرت وتيسَّرت، ومع هذا فهمم طلبته -إن لم تكن معدومةً- راكنةٌ، تراها قد هبطت وقصرت.
فإلى ربنا نشكو ضعفنا وتفريطنا في ديننا ..
قال الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبدالرحمن بن زكري الفاسي (1144هـ)
في مقدمة كتابه (المهمات المفيدة):
" الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، والشكر له على أن استعملني في بعض أوقات عمري في تعرُّف ما طالبني به من الحلال والحرام، وتفقّه ما أمرني بفقهه من الأحكام، و وفقني للعمل ببعض ذلك ولو فيما قل من متكاثر الأوقات ومتتابع الأيام.
وإلا فمن أنا حتى أتوصل إلى ذلك وكثير من أمثالي قد حُرمه، ومن هنا تحقّقتُ في الهداية إليهِ عظيمِ الإنعام.
ثم أحمد الله جل جلاله وأشكره سبحانه وتعالى أن وجَّه وجهتي للنظر فيما يعين على ذلك، ويسهّل الوصول إليه من قواعد فنون الآلات التي هي وسائل لتلك المقاصد العظام، فإن الوسائل بحسب مقاصدها وبذلك حصل للعلوم كلها في عقد التعبّد الانتظام، لكني جهلت قدر النعمة حيث استعملتها في خلاف ما هو المقصد منها والمرام.
فأثمرها .... لتكسّب الذكر وصناعةً للتسبّب في الصيت، وقادتني للطمع في الانتفاع بذلك الأوهام.
ولمّا نبّهني سيدي لأمارات ذلك تأكد أن أتلو شيئاً منها على نفسي لئلا تفتح عليَّ باب التأويل الموقِع في قلب الحقائق و الخروج من النور إلى الظلام، ورجاء أن يتَّعظ بذلك أحدٌ من أبناء جنسي فتحصل من فضل الله لي وله المثوبات الجسام.
فمن ذلك: أني أتكلَّف للتدريس استعارة كتبٍ ومطالعة ما فيها لأطرّز بذكره المجلس، فإذا فرغتُ من ذلك طرحتها للغبرة! لا أرفعها بيدي فضلاً عن أن أوجه للنظر فيها الاعتناء والاهتمام.
ومن ذلك: أني أفرِّغ نفائس الأوقات وأصرف الفكر فيما يتعلق بغامض المشكلات؛ مما لا تنبي عليه فائدة اعتقادية ولا عملية سوى أنَّ من يحرز الكلام فيه يوصف باستقامة الأنظار وسلامة الأفهام.
ومن ذلك: أني أقدّم الاشتغال بما ذُكِر على المهمات الدينية سوى الفرايض الخمس التي صارت بتكررها عادةً، بل ربما استعملتُ الفكر عندها في استنباط التعاليل واستخراج التوجيهات؛ التي ليس لها بمرضاة مَن ُأمرت بمناجاته إلمام.
ومن ذلك: أني مع كوني لا أبالي بما يفوتني في جنب ذلك من أعمال البر لو فاتني معه شيءٌ من العوائد والشهوات التي أنا بها مقيَّدٌ لقامت قيامتي وعظمت حيرتي، وتركت تلك الأشغال التي كان لي بها ولوعٌ والتزام.
ومن ذلك: أني أعرض نفسي بذلك التدريس لإيجاب شيء عليَّ كانت ذمتي سالمةً من التكليف به!
وفي ذلك من المخاطرة والتغرير مالا يقتحمه إلا ضعفاء الأحلام.
فإنَّ بثَّ العلم إنما يجب على المحصّلين له، وأنا لم أحصّل فناً منه! وإنما أحصّل ما أريد ذكره في المجلس تحصيلاً معروضاً لكثير من الكلام.
ثم أتبجَّح به على من هو أجهل مني، و أروم الرد على الكبراء المقتدين، وأنسب لنفسي بالتصريح والتلويح ما يظهر من سقيم الأفهام.
وإنْ تبيَّن لي فهمٌ دقيق؛ واعتقدتُ أنه من نفائس التحقيق تعاظمتْ نفسي وأرتني أنَّ الناس بخسوا حقِّي، ولم يعرف مقداري أكثر الأنام!
ومن ذلك: أني إذا قرأتُ (مسائل الفقه) وقرّرتُ في أبواب المعاملات ما حرره الأئمة الأعلام ثم احتجتُ لشيء منها بعد انصرافي من المجلس = لم أحافظ على غالب تلك الأحكام، فأتوثّب على الدنيا بما يمكنني من غير مبالاة ولا احتشام!
حتى كأنَّ المكلف بذلك غيري، وكأني لم أخاطب إلا بتعليم الصناعات للطلبة وذكر الوعظ للعوام.
وكذا غير المعاملات أقرر مثلاً كلام الناس في السواك وآداب قضاء الحاجة والأكل والشرب واللباس وغير ذلك ثم أقوم غير محافظٍ على العمل بها بل ولا على تعهدها واستدامة عملها، حتى إني إذا سئلتُ عنها بعد ذلك بأيام لم أجد ما أجيب به في غالبها؛ لأنَّ تعلّمها لم يكن بقصد العمل حتى يحصل لي الثبات والدوام.
ومن ذلك: أني إذا أقبل لمجلسي أحدٌ من أهل الرياسة والجاه أو من له قدمٌ في تعاطي العلم؛ أبذل المجهود في تحسين التقرير وأود أني طالعت أضعاف ما طالعته لتحصل لي عنده المنزلة والإعظام.
وإن أعرض عني أو قلَّ أهل مجلسي؛ نقصتْ قوتي وخمدت قريحتي لاستشعاري السقوط والاهتضام.
فاعتبروا معاشر الطلبة، واختبروا نفوسكم في هذه المواطن وأمثالها، وانظروا ما أبعدنا من الإخلاص، وكم بيننا وبين من قرأ العلم امتثالاً لأمر ربه واستقام.
وتيقنوا أن الموت نازلٌ عن قريب، ولا ينفعنا ما نكسبه من الوجاهة ولا مانجمعه من الحطام.
فالتدارك التدارك، بطلب العلم النافع الذي تحصل معه خشية الله ومراقبته في الإقدام والإحجام.
ويتوصَّل به إلى الاطلاعِ على عيوب النفس؛ المعينِ على التخلص من ربقة الرضى عنها؛ الذي هو أصل كل معصية وشرٍّ وحزن واغتمام.
ويعرف به المرء حاله وما هو عليه فينجو بذلك من الغلط واعتقاد الكمال؛ الذي لاتتطلب معه التوبة ولا يرى عنده عتبٌ ولا ملام.
وإذا عرف المرء حال نفسه بعثه ذلك على مدافعة الخواطر الفاسدة والتحرّز على توطين النفس عليها، فيقرأ العلم وإن خاف العجب [صار] مستغفراً منه، وهذا هو مقصودنا من سوق جملة الكلام." اهـ
المهمات المفيدة في شرح الفريدة (ق 2 - 4)
(1) [وهو غير ابن زكري التلمساني المتكلم]
¥