طلب أبو الأسود الدؤلي مالا من جار يستقرضه منه وكان حسن الظن به فاعتل عليه ودفعه فقال أبو الأسود:
فلا تطمعن في مال جار لقربه فكل قريب لا ينال بعيد
وفوض إلى الله الأمور فإنما تروح بأرزاق عليك جدود
ولا تشعرن النفس يأسا فإنما يعيش بجد عاجز وبليد
.
وأنشد محمد بن نصر الكاتب لنفسه:
لا تشرهن إلى دنيا تملكها قوم كثير بلا عقل ولا أدب
ولا تقل إنني أبصرت ما جهلوا من الإدارة في مرأى ومنقلب
بالجد والجد قد نالوا الذي ملكوا لا بالعقول ولا بالعلم والحسب
وأيسر الجد يجري كل ممتنع على التمكن عند البغي والطلب
وإن تأملت أحوال الذين مضوا رأيت من ذا وهذا أعجب العجب
وفي مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {السفر قطعة من العذاب فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل الرجوع إلى أهله} وقد سبق بعد آداب السفر.
قال ابن عبد البر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {سافروا تصحوا وتغنموا} وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنهم من يرفعه أنه قال من سعادة ابن آدم أو من سعادة المرء أن تكون زوجته صالحة , وأولاده أبرارا وإخوانه صالحين ورزقه في بلده الذي فيه أهله وفي التوراة ابن آدم أحدث سفرا أحدث لك رزقا.
ومن أمثال العامة: البركات مع الحركات وقالوا: ربما أسفر السفر عن الظفر.
قال بعضهم:
وإذا الزمان كساك حلة معدم فالبس له حلل النوى وتغرب
وقال آخر:
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
وقال آخر:
إن الغريب بأرض لا عشير له كبائع الريح لا يعطى به ثمنا
وقال آخر:
تغربت عن أهلي أؤمل ثروة فلم أعط آمالي وطال التغرب
فما للفتى المحتال في الرزق حيلة ولا لحدود حدها الله مذهب
وقال آخر:
لقرب الدار في الإقتار خير من العيش الموسع في اغتراب
وقال آخر:
إن الغريب وإن أقام ببلدة يهدى إليه خراجها لغريب
وقال آخر:
غريب يقاسي الهم في أرض غربة فيا رب قرب دار كل غريب
وقال آخر:
إن الغريب وإن ألم ببلدة كتبت أنامله على الحيطان
فتراه يكتب والغرام يسوقه والشوق قائده إلى الأوطان
وقال آخر:
سل الله الأمان من المغيب فكم قد رد مثلك من غريب
وسل الهم عنك بحسن الظن ولا تيأس من الفرج القريب
قيل: إن هذه الأبيات للرشد:
حتى متى أنا في حط وترحال وطول سعي وإدبار وإقبال
ونازح الدار لا ينفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون ما حالي
في مشرق الأرض طرا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بالي
ولو قعدت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى لا كثرة المال
خرج الشافعي رضي الله عنه في بعض أسفاره فضمه الليل إلى مسجد فبات فيه وإذا في المسجد أقوام عوام يتحدثون بضروب من الخنا وهجر المنطق فتمثل فقال:
وأنزلني طول النوى دار غربة إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله
وقال شريك بن عبد الله كان يقال أنجى الناس من البلايا والفتن من انتقل من بلد إلى بلد.
وقال يعقوب سمعت أحمد وسئل عن التوكل فقال هو قطع الاستشراف بالإياس من الخلق , فقيل له ما الحجة قال إبراهيم لما وضع في المنجنيق ثم طرح إلى النار فاعترضه جبريل عليهما السلام فقال يا إبراهيم لك حاجة قال أما إليك فلا , فقال له سل من لك إليه حاجة , فقال أحب الأمرين إليه أحبهما إلي ومراده والله أعلم أن هذا وإن قدح في التوكل الكامل فلا يقدح في التوكل الواجب ولهذا قال في رواية عبد الله السابقة: الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس , ولهذا يذكر الأصحاب كراهة الحج لمن حج بلا زاد ولا راحلة يسأل الناس. وذكروا قول الإمام أحمد وسئل عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة فقال لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس.
وظهر مما سبق أن من توكل توكلا صادقا فلم تستشرف نفسه إلى مخلوق وترك السبب واثقا بوعد الله أنه خلاف السنة وهل يأثم؟ على روايتين , والله أعلم.
¥