وغرضي من ضرب الأمثلة الإسهام في علاج أمر بالغ الخطورة، ألا وهو ضعف نقد السنة النبوية في العصور المتأخرة، خاصة في عصرنا هذا، إذ يمكن القول بأن جهود أئمة النقد الأولين في تنقية المرويات وتصفيتها كادت تذهب سدى، فالأحاديث الموضوعة والمنكرة خرجت من الباب الأمامي، ورجع الكثير منها من الباب الخلفي، ولكن بثوب جديد، ثوب الصحة أو الحسن، فاستقرت في البيت، وانتشرت في الأمة بثوبها الجديد، بحكم تداول الأحكام الجديدة عليها، لسهولة الوصول إليها، وانتشار كتب أصحابها بين الناس، فأصبح إخراجها مرة أخرى يحتاج إلى جهد مضاعف. انتهى كلامه، وفيه إشارات أبلغ من صريح العبارات.
وقد أكثر المؤلف من التعقب والاستدراك والتخطئة إما للباحثين عموماً أو لكثير منهم أو لبعضهم، ففي المقدمة وحدها ما يلي:-
ص10 - وكان بالإمكان أن تخرج هذه الأبحاث متفرقة، فأحد فصول (الجرح والتعديل)، أو مباحثه يخرج ببحث مستقل، يعقبه آخر في مقارنة الروايات، وهكذا بصورة عشوائية، غير أنني آثرت إخراجها متكاملة متسلسلة لأمر أقصده، وهو علاج ما رأيته من خلل ظاهر في نقد السنة عند الباحثين، سببه الصورة الجزئية التي كون بها الباحث نفسه، فظهر لدينا من الباحثين من هو متخصص في الجرح والتعديل، ومن هو متخصص في الاتصال والانقطاع، ومن هو متخصص في العلل، وأثَّر هذا بدوره على ممارسة الباحث للتطبيق العملي، واشتغاله بنقد الأسانيد.
ص12 - وهنا أمر هام أيضاً، وهو أن الباحثين ظلوا زماناً يعتقدون أن (علم العلل) يعتمد على (علم الجرح والتعديل) فإذا أردنا أن نوازن بين راويين أو أكثر نظرنا في درجة كل راو؛ للموازنة بينهم، وهذا وإن كان فيه شيء من الصحة بالنسبة لنا، لكنه بالنسبة للناقد الأول ليس كذلك، فـ (علم الجرح والتعديل) متولد في غالبه من (مقارنة المرويات)، والصورة المقلوبة في أذهان الباحثين أدت إلى خلل في النقد، فاحتجت في مواضع متعددة إلى شرح هذه القضية، والتنبيه عليها، وبيان ما لها من آثار.
وتعليقاً على هذه الجملة من كلام المؤلف؛ يقال: هذا هو الفرق بين طريقة المتقدمين و طريقة المتأخرين، وهو ظاهر، لكن لم يتبين أثره في اختلاف الأحكام على الأحاديث بين المتقدمين و المتأخرين ... كما لم يتبين مراد المؤلف بقوله: " وهذا وإن كان فيه شيء من الصحة بالنسبة لنا "؟!
إن النقد ينبغي أن يكون دقيقاً ومحدداً ...
ص 16 - وقد رأيت أن الإسهام في تكوين مثل هذا الباحث [يعني المتمكن الذي يجيد تطبيق قواعد البحث العلمي ومتطلباته بصفة عامة، والبحث العلمي المتعلق بنقد السنة بصفة خاصة إلى آخر ما ذكره في الصفحة السابقة 15] عن طريق هذه السلسلة في مسائل النقد يمكن أن يتم بدق ناقوس الخطر في ذهنه، وأن الخوض في هذا الفن مزلة قدم، فتعمدت الإكثار من عرض أخطاء الباحثين والمتكلمين على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، ليأخذ الباحث حذره، فيستعد جيداً لما هو مقبل عليه، ويكون دائم الوجل والخوف وهو يمارس التطبيق العملي.
وأما إذا استمر وضع الباحثين على ما هو عليه فالأمر خطير جداً؛ ذلك أن تطبيق قواعد المتأخرين أسهل بكثير من تطبيق قواعد أئمة النقد الأولين، فقواعد المتأخرين مطردة، يسهل تطبيقها، لا تحتاج إلى إعمال نظر كبير، فإذا كان حال الباحثين الآن الضعف الشديد في تطبيق هذه القواعد – فماذا ستكون الحال إذا أراد هذا الباحث – وهو هو لم يتغير – تطبيق قواعد أئمة النقد؟ لا شك أن التخبط سيكون أكبر، والخلل أعظم.
وقد رأيت من خلال رصدي لبعض أعمال الباحثين بوادر ذلك، وأخشى ما أخشاه أن يأتي يوم نتمنى فيه أننا لم نحرك ساكناً، وأننا أبقينا ما كان على ما كان.
ص 16 - من أكبر الأخطاء التي يقع فيها المنتسبون للسنة النبوية، المشتغلون بالنقد وقضاياه؛ ما استقر في أذهانهم من أن كل دارس لقواعد التصحيح والتضعيف يصبح لديه القدرة على ممارسة النقد، بل سارت الأقسام العلمية المتخصصة في السنة النبوية في الجامعات على إلزام الباحثين – كل الباحثين – بإصدار أحكامهم على ما يمر بهم من أحاديث وآثار، لا فرق بين باحث مبتدئ، وباحث متمرس.
¥