ولا يلزم من قول البخاري عنه: فيه نظر؛ أن يكون متهماً أو شديد الضعف.
فإسناد الحديث محتمل للتحسين، والجزم بنكارته يحتاج إلى مرجح.
وكذلك متن الحديث لا نعلم نصاً يخالفه؛ فيدل على بطلانه، كما لا يمكن أن يستدل على ذلك بالواقع؛ إذ لا يمكن إحصاء من مات بسبب العين ومن مات بغيرها، على أن أسباب الموت لا تكون معلومة دائماً، كما أنها قد تتعدد في الميت الواحد.
وهذا إذا كان المؤلف يقر بأن العين من أسباب الموت أصلاً.
وقد وردت أحاديث فيها صحة أمر العين وأنها قوية الضرر، وتأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيرها في الذات، ومن ذلك ما أخرجه مسلم وغيره عن ابن عباس رفعه " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ".
قال الحافظ ابن حجر محيلاً إلى كلام للقرطبي حول هذا الحديث: وحاصله لو فرض أن شيئاً له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟! وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس" قال الراوي: يعني بالعين. أهـ
وفي حديث سهل بن حنيف (الصحيح) عند أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: " علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلاّ إذا رأيت ما يعجبك بَرَّكت " الحديث، وفيه من الفوائد: أن الإصابة بالعين قد تقتل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في آخر تفسير سورة القلم، وروى الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب، وهو مشتمل على فوائد جليلة وغريبة، عن شعيب بن أيوب عن معاوية بن هشام عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد تدخل الرجل العين في القبر، وتدخل الجمل القدر ". قال ابن كثير: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات ولم يخرجوه.
والظاهر أن المؤلف ينازع في أن أكثر من يموت من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد قضاء الله وقدره بالعين كما في حديث الطيالسي والطحاوي والبزَّار، وقد أحال إلى الكتب التي سبقت الإشارة إليها، لكن لا يتبين منها وجه بطلان متن الحديث.
4 - قال المؤلف ص 14: " وقد رأيت بعض من تصدى لهذه القضية [يعني: ضعف نقد السنة النبوية في العصور المتأخرة، خاصة في عصرنا هذا] يذكر أن السبب هو مخالفة المتأخرين لمنهج المتقدمين، واستحداث قواعد لنقد السنة لم تكن معروفة من قبل، فأدى هذا إلى مخالفتهم في الأحكام على الأحاديث، ثم يتعرضون في بيان ذلك لبعض المسائل البارزة، مثل مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، والتفرد، والشد بالطرق.
وتصور كثير من الباحثين أن مجرد تحرير قواعد أئمة النقد في هذه المسائل كفيل بالعودة إلى المنهج الصحيح.
وما يذهب إليه هؤلاء بعض الحقيقة وليس كلها، إذ لا شك أن الابتعاد عن منهج النقاد في هذه المسائل أحد الأسباب الرئيسة لضعف النقد، غير أن هناك مسائل كثيرة سار فيها العمل وفق قواعد وضوابط مخالفة لما عليه أئمة النقد لم يتم إبرازها والحديث عنها، ولها أثر كبير في واقع النقد الآن، منها في الجرح والتعديل، ومنها في الاتصال والانقطاع، وغير ذلك، وقد رأيت بعض من يكثر من الانتساب لمنهج الأوائل في النقد، والعودة إليه، يتخبط في هذه القضايا، وربما ناقض نفسه.
وأهم من ذلك أن الحديث أنصب بصورة كاملة على المنهج الذي يطبق في النقد، ولم يتم التعرض للمطبق للمنهج، وقد تبين لي أن مخالفة أحكام أئمة النقد الأولين على الأحاديث ليس السبب في كثير منها مخالفتهم في المنهج، وإنما السبب في الباحث نفسه، ومنهج المتأخرين – حسب قواعده - لو تم تطبيقه بصورة جيدة لضاقت الفجوة في المحصلة النهائية، وهي الحكم على الأحاديث.
فما ذنب منهج المتأخرين في حكم باحث لم يستطع تمييز رواة إسناده أو بعضهم؟
وما ذنب منهج المتأخرين في جمع غفير من الباحثين يصححون ويضعفون دون أن ينظروا أصلاً في اتصال الإسناد وانقطاعه؟ " انتهى كلام المؤلف، وفيه غموض، فالمؤلف يتكلم وكأنه يقرر مسائل مشهورة رغم أنه لم يشر إلى مراجع فيها، فما مسألة مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه؟ وما مسألة التفرد؟ وما مسألة الشد بالطرق؟ هل يخاطب المؤلف أشخاصاً معينين؟
¥