شأن الرحلة قديم تليد، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وقد قصَّ الله خبر رحلته في القرآن الكريم، مع عبده الخضر وما كان في رحلته من العوائق والغرائب، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين.
وهؤلاء صحابة الرسول منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له.
فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له.
فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج.
فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره.
وهذا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.
روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرًا، فشددت إليه رحلي شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أنَّ جابرًا بالباب فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله!! فقلت: نعم.
فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت …. فذكر الحديث "
ومن نوادر الرحلات
ما صنعه هذا الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي ـ رحمه الله ـ (ت 276 هـ) فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل.
قال: فلما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غمًا شديدًا، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتًا في فندق، ثم أتيت الجامع، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجت لي فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا ـ رحمك الله ـ رجل غريب، ناء عن وطنه، أردت السؤال فلا تستخفني.
فقال: قل. فسألت عن بعض من لقيته فبعضًا زكى، وبعضًا جرح، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي أبو الوليد: صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدًا كبرًا ما ضره شيئًا لخيره وفضله.
فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك ـ رحمك الله ـ غيرك له سؤال.
فقلت: ـ وأنا واقف على قدم اكشف عن رجل واحد ـ أحمد بن حنبل.
فنظر إليَّ كالمتعجب فقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن أحمد، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه، فقرعت بابه فخرج إليَّ فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك.
فقال: ادخُل الأسطوان ـ يعني به الممر إلى داخل الدار ـ ولا يقع عليك عين. فدخلت فقال لي: وأين موضعك؟! قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيءٌ أحب إليَّ من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أنِّي في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك.
فقلت: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك، مقبل نحوك.
فقلت له: يا أبا عبد الله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم على شرط أن لا تظهر في الحِلق، ولا عند المحدثين.
فقلت: لك شرطك.
¥