قال الصغير: أتعني ذلك الغربال وذلك القمح وما كان في القرية، إذ تناولت ربة الدار غربالها تنفض به قمحها، فغافلتها ونطحت الغربال فانقلب عن يدها وانتثر الحب، فأسرعت فيه التقاطا حتى ملأت فمي قبل أن تزيحني المرأة عنه؟
فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، وقال: أرأيت حانوت القصاب، ونحن نمر اليوم في السوق؟
قال: وما حانوت القصاب؟
قال: أرأيت ذلك السليخ من الغنم البيض المعلقة في تلك المعاليق، لا جلد عليها ولا صوف، وليس لها أرؤس ولا قوائم؟
قال الصغير: وما ذاك السليخ؟ إنه إن صح ما حدثتني به عن أمك، فهذه غنم الجنة، تبيت ترعى هناك ثم تجيء إلى الأرض مع الصبح، وإني لمترقب شمس الغد، لأذهب فأراها وأملأ عيني منها ":) "
قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك .. لقد رأيت أخي مذ كنت جذعا مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه قد أخذه، فأضجعه، فجثم على صدره شرا من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يَشْخَب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويدحص برجله، ثم سكن وبرد؛ فقام الرجل ففصل عنقه، ثم نخس في جلده ونفخه حتى تطبل ورجع كالقربة التي رأيتها في القرية مملوءة ماء فحسبتها أمك؛ ثم شق فيه شقا طويلا. ثم أدخل يده بين الجلد والصفاق، ثم كشطه وسحف الشحم عن جنبيه، فعاد المسكين أبيض لا جلد له ولا صوف عليه، ثم بقر بطنه وأخرج ما فيه، ثم حطم قوائمه، ثم شده فعلقه فصار سليخا كغنم الجنة التي زعمت! وهذا –أيها الأبله- هو الذبح والسلخ!
قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟
قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين!
قال الصغير: فقد كانت الشفرة عند حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟
قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئا ولا يحفظ شيئا، لو كانت خضراء لأكلها!
قال: وما خطب أن تجيء الشفرة على العنق، أفلم يكن الحبل في عنقك أنت فجعلت تجاذب فيه الرجل حتى أعييته، ولولا أني مشيت أمامك لما انقدتَ له؟
قال الكبش: ما أدري والله كيف أفهمك أن هذا كله سيجري عليك، فسترى أمورا تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ .. !
قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عودا منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ .. ؟
قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نفع الحكمة إذا لم تكن إلا رأيا له ما يمضيه، كرأي الشيخ الفاني، يرى بعقله الصواب حين يكون جسمه هو الخطأ مركبا في ضعفه غَلطةً على غلطةٍ لا عضوا على عضو .. ؟ وهل الرأي الصحيح للعالم الذي نعيش فيه إلا بالجسم أي نعيش به؛ وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلا عن المرض المعضل، فضلا عن المرض المزمن، فضلا عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموتَ، فضلا عن المرض؟ ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نوما، فقال: هنيئا لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر هو كسر النبات الأخضر، لا يقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخرا هازئا، قائلا على المصائب: ها أنذا ...
فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين؛ أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه.
إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشا من قروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئا بشيء ذهب فكري بقوتي، واسترخى عصبي، وتحلل غضبي كله، وكان العلم وبالا علي؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئا اسمه الموت، ولا شيئا اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة.
¥