وأصحاب هذا الرأي لايعنيهم الاهتمام بعمل بعينه من حيث نتائج هذا العمل وقيمته في دنيا الإبداع الفني أو العلمي. إذ تقتصر أحكامهم على كمية الأعمال المنتجة بغض النظر عن كيفيتها. بينما نجد طائفة أخرى لا تهتم بهذا الكم , بمقدار ما تهتم بتنوع الأعمال الإبداعية , وقدرة المبدع على تشكيل حالاته الذهنية والعقلية بطرق مختلفة. فالعبقري عند هؤلاء يملك فكراً أشبه بحبات الخرز التي تنتظم في أشكال متنوعة لا تعد ولا تحصى. وعن مثل هذا الأمر يتحدث نقاد الأدب في تقييمهم لكثير من الأعمال الأدبية أو المسرحية: هل استطاع صاحبها أن يتجاوز نفسه؟ وأن يتخطى الأعمال التي سبق له أن قدمها من قبل؟ أم أنه ظل يكرر نفسه مما يطبع أعماله بالجمود وضيق الأفق؟ وبهذا لا يكون مقياس الإبداع بالنسبة لشكسبير مثلاً هو عشرات المسرحيات المأساوية والكوميدية التي نسجها , ولا مئات القصائد الشعرية التي زخرت بها أعماله. ولكن المقياس يكون في نظر هؤلاء هو مدى التنوع الذي صاغ به شكسبير شخصيات مسرحياته , وقصائده , والموضوعات الجديدة التي يحملها كل عمل من أعماله , فأي عمل جديد لشكسبير تبدو فيه -بالرغم من الطابع العام لشخصيته وأسلوبه في الكتابة-محاولة للتحرر من منظور العمل السابق وموضوعه , فهو لا يكرر فكرة , ولا يستخدم صوره الشعرية بصورة جامدة متكررة. فالمأساة في هاملت يختلف مضمونها وتختلف معالجتها عن المأساة في لير أو عطيل , وهكذا أيضاً تبدو عبقرية ديستويفسكي أو ديكنز , وليوناردو دافنشي: قدرة على تخطي الذات , والتحرر من النظرة الجامدة , والتفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والصور والأشكال.
ولكننا قد نجد أيضاً من يقول بأن مقياس العمل الإبداعي يكمن في وزن العمل وقيمته لا بالنسبة لأعمال المفكر الواحد , ولكن بالنسبة لوزنه من بين الأعمال الأخرى للعديد من المفكرين. فهل استطاع هذا العمل أن يقدم رؤيا جديدة؟ وهل استطاع أن يقدم تأليفاً جديداً بين أشياء متناقضة بحيث يلقي على بعض الظواهر أضواء لم تكن ملقاة عليها من قبل؟ وصاحب هذا الرأي قد لا يعنيه مقدار ما أنتج المفكر , ولا مقدار التنوع في أعماله فحسب , بل إن ما يعنيه أساساً هو وزن العمل , وقيمته في دنيا الأعمال الأخرى من جدته وأصالته , وقدرته على الامتداد بحدود الخبرة إلى آفاق جديدة. وإذا ما قيست الشخصية المبدعة بهذا المقياس فإن الحكم عليها يصبح شديداً وصارماً. إذ لا تتجاوز الأعمال الإبداعية على مر التاريخ الفكري البشري -بهذا المقياس- العشرات. وقد لايزيد عدد الأعمال الإبداعية للمفكر الواحد على واحد أو اثنين على الأكثر هو الذي اكتسب من خلاله الشهرة والتقدير. فمن بين كل مؤلفات "داروين" يبرز " أصل الأنواع" ومن كارل ماركس " رأس المال" ومن "ديستويفسكي" " الأخوة كارامازوف" ومن "بافلوف" "الأفعال المنعكسة الشرطية" .. وهكذا , وبهذا قد يصبح العمل الإبداعي نادراً ندرة وجود مثل هذه الأعمال الموسومة.
وقد نجد أن البعض الآخر يتجه في تصوره للشخص المبدع شخصاً ذا حساسية مرهفة , وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات , فقد شاهد الملايين قبل نيوتن ثماراً تسقط من أشجارها , غير أن مشهد التفاحة وهي تسقط على الأرض كان يحفل بالنسبة له بكثير من المشكلات التي انتهت بعد ذلك إلى نظرية الجاذبية الأرضية. وفي المجال الاقتصادي الاجتماعي لم تأخذ مشكلة التفاوت الضخم بين الطبقات وتوزيع الثروة أكثر من صورتها الساذجة , أما بالنسبة لكارل ماركس فقد كانت مصدراً لإثارة كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتحليلها.
وقد يثير البعض تصوراً آخر للعبقرية. فالمبدع في الفن أو العلم هو ذلك الشخص القادر على إدراك الروابط الخفية بين الأشياء. فعبقرية نيوتن ظهرت في قدرته على الربط بين سقوط التفاحة والجاذبية. وفرويد في قدرته على الربط بين هفوات اللسان , وزلات القلم , والأحلام بعالم اللاشعور والرغبات المكبوتة , وبافلوف في قدرته على الربط بين إفراز اللعاب والمنبهات الشرطية. والشاعر والأديب تتخلق مواهبهم الأصلية من خلال قدرتهم جميعاً على الربط بين العناصر الحسية والخبرة الماضية , في شكل جديد , بتأثير من القدرات العقلية والحياة العاطفية , ورؤيته الإيديولوجية لواقعه. إن الحذاء في لوحة فان جوخ المشهورة ليس حذاء عادياً , والمسيح في لوحات جيوتو ليس هو المسيح الحقيقي , وحفار القبور في قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب لا يمثل صورة تسجيلية لشخصية حفار القبور الحقيقية.
إنها جميعاً أشخاص وصور وأشكال , وخبرات أعيد تشكيلها من جديد , من خلال ارتباطها بالحياة العاطفية للفنان ورؤيته لواقعه , أو لجانب من هذا الواقع.
_______