مرور الزمن –فقط- يحوّل شدة خفقان الاستفهامات والاستنكارات والإنشاءات ..
إلى حدّة هبوط الإجابات والتقارير والأخبار ..
(أحبُّك ِ أمي) خبر عادي "بلاغيا "
(أحبُّكِ حبَّا) إنشاء غير عادي "شعوريا "
لأن المصدر المفعول المطلق يتكرر مرارا في النص وبإلحاح الحنين ..
حيث الشاعر -مَن ْ وقع عليه الفقد- يحب على الإطلاق بكل مصادره!
. . . . . . . . . . .
أما بعد:
ففي لوعة فقد الوالد للولد ,أو الولد للوالد .. نتقارب مع لوعة مشابهة ليس في بحر التوجع الطويل, ولا قافية التفجع المنكسرة ..
بل حزن التأمل العقلي في المطلع ..
حين يقول ابن الرومي:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي!
يقول شاعرنا –بذات العقلانية الموجوعة لا المفجوعة -:
أحبُّك ِ يا أمي ولو كنت ِ في اللحد!
. . . .
أحبك حبا لو أطل َّ سحابه ُ **لأهمى بلا برق يلوح ُ ولا رعدِ!
أحبك حبا لو مزجتُ رحيقه ُ**ببحر لصار البحر أحلى من الشهدِ!
أحبك حبا لو سقيتُ بمائهِ ** فيافي نجد , أورق الشيح ُ في نجدِ!
أحبك جبا لو بسطت رداءه **على القاع فاق الروض بالعشب ِ والرندِ!
أحبك حبا لو نقشت حروفه **على الصخر ذاب الصخر من شدة الوجدِ!
الأم الهتَّان .. ذكراها مثلها وحبها مثلها يهمي بلا برق ولا رعدِ!
الأم العذبة .. أثرها مثلها , و قربها مثلها أحلى من الشهدِ!
الأم المكان .. الأم الزمان .. التي كانت فيافي "نجد " -بوجودها -حدائق بابليّة!
الأم العشب .. الأم العطر .. الأم النقش الخالد ..
كل تلك المشاعر لمَّا كانت ْحولها هي .. جاءت بصورٍ بهيةٍ ساحرة ..
وتصاعدت اللوعة وصار البوح الشعري عن فقدها , عن غيابها , عن رحيلها ,
فاحترقت الرمال , وتمرد العقوق , وتفاقمت الأحقاد ..
أحبك حبا لو قدحتُ زناده **على الترب أورى كالهشيمِ مع الزندِ
أحبك حبا لو أعرت قليله **لغيري لم يكتم عقوقا ولم يبدِ
أحبك حبا لو يفيض يسيره **على الناس ,عاش الناس طرا بلا حقدِ!
لكنه لم يقدح , لم يُعِر , لم يفِض .. ما أقسى هذا الامتناع للامتناع!
. . .
ثم أمسى الحب المطلق:"أحبك حبا " عاجزا عن التعبير؛ حيث لا يوجد نسقٌ محبٌ مماثل ,
بات حائرا في التصوير؛ في ما لم ير الناس مثله قط:
أحبك حبا فاق حبِّي أحبَّتي **فليس لحب ِّ الأم في القلب ِ من ندِّ!
أحبُّك حبا لم ير الناس مثله **به تُضرب الأمثال في صادق الودِّ!
و يسلو الشاعر قليلا إذ ْ يحكي لها القصة:
ابتدأ هذا الحب من التصاقه جنينا بحناياها , منذ ارتشافه صغيرا عطاياها ..
أحبك يا أمي جنينا عرفته **وأرضعتني إياه مذ كنت في المهد ِ
ولكن الحكاية طويلة ,حزينة , فيجن ُّ الليل , ويسهر الحزن .. ويتواصل النحيب بلا انقطاع تشرق به لحظات الشروق الباردة الكئيبة ..
وتشهده غمرات الغروب الموحشة بفقد الحبيبة ..
إذا أشرقت شمس ٌ ذكرتُ أميمتي ** وإذا غربت شمس بكيت من السهدِ
ولكم يوجعه سماع شدو الألفة,
تنوح حمام الدوح مثلي صبابة **وما حزنها حزني ولا وجدها وجدي!
فيتعثر حزن المقارنة المريرة الساخرة على الشفاه ,
يفتر حرف الفاء الشفهي .. يلتقط غصاته؛
بحيث تقرأ هذا البيت بلا تنوينٍ يُطاع , ولا مدٍّ يُستطاع:
فقد ْ .. فقدت ْ .. إلفا .. يُعاض .. بمثله ..
ومن ْ .. يفتقد ْ .. أمّا .. فيا بؤس .. للفقدِ ..
يعود التوجع على البدء .. من يلومه؟ ما حيلته؟ ما الذي يمكن أن يستنجد به من تحت أنقاض هذا الانهيار!؟
هل يمكن أن نتخيله يناديها:أماه , لن أنساك ِ؟ أماه أفتقدك ِ؟ أماه أحنُّ إليك ِ؟
لم يقل هذا: قال التقرير المنطقي المناسب لتيار النشيج في النص:
لن يغادرني حزني عليك ِ حتى ألقاك ِ ,
وألثم ُ جبينك وكفيك ِ وقدميك ِ , في الفردوس الأعلى ..
أحبك يا أمي ومن ذا يلومني ** لحزني عليك إذ سبقتِ إلى اللحد!؟
وحزني عليك الدهر ليس ببارح **بغير جواري معك في جنة الخلد!
. . . .
اللهم اغفر لها و لموتانا وموتى المسلمين ..
وارحم والدينا ووالدي والدينا .. ويسِّر لنا برّهم أحياء وأمواتا ..
اللهم آمين , اللهم آمين ..
ـ[العايد]ــــــــ[25 - 03 - 2008, 11:49 م]ـ
الأختُ العزيزة (أحاول أن):
¥