ولكن ملايين المشاهدين في السعودية وغيرها تفاجئوا بتغيير مكان ابن جبرين بعد لحظات معدودة , فيكون له مكان جديد في صدر المقام , حيث أصبح بجوار الملك وكبار الأسرة المالكة , ورأى الناس ولاة الأمر يقدمونه على أبنائهم وضيوف الدولة والوزراء والأمراء , وهم فرحين بكونه معهم , فلسان حال الجميع يقول له: (يا إمام أنت أعلم من يمشي اليوم على وجه جزيرة العرب , فتعال لتدعوا لأميرنا وأخينا الراحل بالرحمة والغفران , فبمثلك من الصالحين تلتمس إجابة الدعوة).
لم يكن ابن جبرين مجهول الشكل عند الأمراء الكبار, فهم يعرفونه جيداً ويعرفهم , ولم يكونوا يحملون له إلا الحب الذي يبادلهم إياه , ولم يكن عنيفاً في تعامله أو قاسياً في خطابه , بل كان عالماً ربانياً.
ومجالس عدد من كبار الأمراء ذوي المناصب الرفيعة في السعودية يغشاها العلماء وطلبة العلم , وليس الأمراء كما يصورهم بعض الجهلة بعيدون عن العلم وأهله , ولكن الإعلام العربي والمحلي في واد والحياة الدينية في البلد في واد آخر , فغالب أخبار الإعلام وصوره عن سفلة المغنين وأراذل الناس , وأما أخبار العلم وأهله , وأخبار الدروس العلمية في المساجد وأصحابها فلا تذكر إلا للنقد والتشويه , وأما زيارة العلماء من أهل السنة لولاة الأمر فهي ليست للبهرجة والضجيج الإعلامي كما يظن الناس , بل هناك تلاحم ومودة ومحبة أكبر من زيارة رسمية ربما لا يريدها الضيف , ولذلك تعجب المصورون من هذا المنظر ومن هذا الكهل الذي لا يعرفه أكثرهم ويتغير مكانه أكثر من مرة في محبة وإجلال له , وتداولت معظم الصحف ومواقع الأخبار هذه الصور وكأنهم يشاهدون هذا الرجل لأول مرة.
بقيت هذه الصور في الإنترنت يشاهدها من يرغب في ذلك ويحمدون لولاة امرهم هذا الحب للعلماء الربانيين.
لم يكن ابن جبرين بعيداً عن الناس بل هو محبوب من كل الطبقات , يعرف الجميع أنه صادق , لا يستغل علمه لتلميع نفسه , ولا لبناء شعبية لقومه , ولا للانتصار لحزب معين ضد آخر , وإنما هو يدعوا الناس ليطيعوا ربهم , وأن يطبقوا الشريعة على أنفسهم , فهو معلم ومربي وأب للمجتمع.
عندما سقط بن جبرين مريضاً في المستشفى قبل أربعة أشهر , كان أول الزائرين له الملك , وإذا قيل الملك عبد الله بن عبد العزيز فمعنى ذلك أن هذا المريض يهم أمره الكبراء قبل العامة , وهذا الملك قريب من الناس عطوف على الشعب , وابن جبرين مريض يحمل ضمير الشعب بين جنبيه , وهو مريض يحمل هَمّ الناس أينما كان , كسر الملك قواعد ومثاليات الدول في زيارة الرسميين فقط من الشخصيات أو أصحاب المناصب العليا , وذهب مباشرة ليعود رجلاً يحب الناس ويحبونه ,أجتمعت طيبة قلب الملك خادم الحرمين مع طيبة قلب ابن جبرين , فهما في رقة الطبع وحب الناس يشيركان سوياً , جلس الملك المتواضع على مقعد صغير يرمقه ويدعوا له ويباسطه في مرضه , وبعد أن زاره أمرَ بأن تتكفل الدولة بعلاجه في أرقى مستشفيات العالم.
قبل بضع سنوات في عام (1426) وفي مدينة جدة , عندما سمع ابن جبرين أن شيخ الحجاز (سفر الحوالي) قد مزق المرض جسمه النحيل , وأنه طريح الفراش في المستشفى وفي غرف العناية الخاصة , أصرّ ابن جبرين على مقابلته والاطمئنان على حالته , وذهب بتواضع الزهاد ليعوده وينظر في حاله , فهو يعلم أنّ الحوالي رجل أمة ورجل علم , رجل لم يكن ليعيش لنفسه فقط , وهي صفات اشترك فيها العظيمان بطل الصحراء وبطل الجبال.
كان ابن جبرين يحضنه ويقبله كأب يخاف أن يفقد ولده الحبيب ,كان يمسح بيده على جسمه ليخفف مصابه ومصاب أهله , تسير أصابعه الجميلة على أطراف جسمه ووجهه وهو يدعوا له , يحاول أن يرفع من عزيمته وأن يبشره بثواب الله ورضوانه , ينظر ابن جبرين للحوالي كما ينظر لأسد سقط وخارت قواه بإرادة الله لا بإرادة الناس , يفكر في الوعي العلمي الذي نشره وأوذي بسببه , كأنه يقول في نفسه لقد أوذيت أنا وأنت , وهاجمنا الكتاب والناس , لقد حملت همّ أمتك ودينك ولكنك سقطت قبلي على السرير الأبيض.
وتناقل الناس حديث الزيارة التي صورها بعض المحبين بدون أن يكون مع ابن جبرين فريق من الإعلاميين والصحافيين , لكنها صُورٌ التقطت بعفوية مفاجأة من بعض أقارب الحوالي ممن حضر اللقاء ونشرها في الإنترنت وتداولها الناس.
لم يمض وقت طويل حتى رأينا المرض يعصف بابن جبرين نفسه , وينام على سرير المرض ترقبه عيون محبيه , وهي دامعة خاشعة لمصابه وألمه , وتصبح أخباره وسفره لألمانيا حديث الناس.
وهي سنة الله في أعلام الأمة وقادتها , يُقّطعهم المرض كما يقطع غيرهم من الناس, يتألمون ونتألم لألمهم , يحملون همّ الناس وربما حمل بعض المخلصين همومهم , يشاركون الناس أفراحهم وأحزانهم , يعملون أعمالاً عظيمة لوجه ربهم الكريم بدون أن يطلبوا من حطام الدنيا شيئاً , بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لخدمة هذا الدين , ضحوا بأنفس ما يملكون من المال والجاه و الوقت لتكون كلمة الله هي العليا , ولن يكون مرضهم عائقاً أمام انتشار الخير والعلم بإذن الله , فأمة أنجبت من قبلهم عظماء ولازالت تنجب عظماء لن تكون عقيمة بإذن الله تعالى. ... انتهى .. كتبه ... خضر بن صالح بن سند
جدة 11/ 6/1430
رحم الله الشيخ
وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
وسامحوني على الإطلالة .....
¥