تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[أنا ... والعربية ... والفصيح]

ـ[الطائي]ــــــــ[03 - 02 - 2004, 06:36 ص]ـ

أنا .. والعربية .. والفصيح ..

عشقت اللغة العربية مذ قطعت عني تمائمي وأدركني عقلي وشببت عن الطوق، وبدأ سمعي يتلذذ بتلك اللغة المهيبة، ووجدتني أميل إليها وتتشربها نفسي حتى تمكن حبها من قلبي:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ****** وصادف قلباً خالياً فتكمنا

كنت أنصت باستغراب وتعجب إلى قول ربي: (كلا إن كتاب الأبرار لفي "عليين"، وما أدراك ما "عليون") فأتوق لأعرف سبب اختلاف الكلمتين، وكنت أسمع إمام المسجد يتلو كلمةً من القرآن ثم يبدو عليه الارتباك فيغير في تركيبها الصوتي، أو يفتح عليه أحد المأمومين بذلك، وتتوالى المواقف التي تؤكّد لي أن هناك سراً ما في هذه اللغة، وكنت أحاول استباق المناهج التعليمية في المرحلة الابتدائية بأن أسأل عن تلك الأسرار التي تلحّ بالطرق في رأسي الصغير؛ غير أن الرياح لم تكن تجري بما تشتهي نفسي التوّاقة لاستكناه تلك اللغة الزاهية، فمدرسيَّ محدودو المعرفة بتلك اللغة، والوسط الاجتماعي الذي كنت أعيش فيه وسط يرسف في أغلال الأمية اللغوية، فزادني ذلك إصراراً على إصرار بأن أمضي في الطريق لاكتشاف هذا العالم المحاط بالجلال والبهاء.

أتيح لي أن أدرس علوم اللغة العربية بشكل أكبر في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وأقبلت ألتهم المقررات الدراسية بشغف كبير حتى شعرت ببعض الارتواء وبدأ نور العربية يبلّل جوفي المظلم ويسري إلى روحي فينعشها في عذوبة ورقّة. وعندما أتيح لي الاطلاع على أمهات كتب التراث اللغوي بُهرت بقوة الأساليب والألفاظ، وكانت تجتاح جسدي رعشة عارمة وأنا أقرأ الخطب والمنافرات ووجدتني أهتز لكلّ تعبير عربي أصيل لم تدنسه العُجمة، تعبير بكر ينقلني في لمحة إلى صحارى نجد وفيافي بادية السماوة وأراضي اليمن السعيد، وكنت أعيش مع الشعراء والخطباء باديةً وحاضرة ألتقط الدرّ من أفواههم بكل إكبار وإعجاب، وأرحل مع الشعراء المتجولين مبهوراً بما ملكوا من قوة العارضة وشريف القول، وشعرت بالحنين إليهم، ولا غرو فهم أسلافي، ومن يدري فربما كان أحدهم جدي لأبي أو لأمي، كنت أحس بالانتماء إلى هذه اللغة وإلى كل من نسب إليها.

مرّت الأيام وتوالت السنون وأنا أبحر في تلك اللجج الآسرة الأخّاذة، وأرتشف الزلال من تلك الينابيع الجياشة الفياضة سحراً وجمالاً، ولكن كما يقال: (من كان معلمه كتابه؛ فاق خطؤه صوابه)، فقد كنت في كثير من الآونة أحتاج إلى سؤال عن كلمة أشكلت عليّ، أو تعبير قصر فهمي عن إدراك مرماه، أو بيت شعر خلب لبّي فأردت أن أبوح لأحد بهذا الإعجاب لأعرف هل رأي في البيت ما رأيت؛ ولكن خيبة الأمل لازمتني، والحظ العاثر أحاط بي، فالبيئة التي أعيش فيها، سكناً وعملاً، لا تستسيغ اللغة الفصيحة ولا تستعذبها، بل كان في آذانها وقرٌ لا تسطيع معه إدراك مواطن الجمال، ولم يكن يدخل آذانها فضلاً عن أن يتجاوزها. والمعاجم العربية، والكتب ذات التخصص الدقيق بحر متلاطم الأمواج، يتعسر فيه البحث ولا يتيسر إلا بمكابدة ودربة وطول نفس لا أجد لنفسي عزماً ولا قدرة عليها، والوقت سيف مصلتٌ ما بين عمل وواجبات اجتماعية وعائلية، ويمضي مركب العمر، وتتصرم الأيام، وأنا أقول: سأذهب إلى المكتبة الفلانية، وسأقتني الكتاب الفلاني، وسأسأل قيّم المكتبة عن المعجم الفلاني، ولكن هيهات فما أيسر القول وما أصعب الفعل.

وجاء أوان الشبكة العالمية، ذلك العملاق المتشعب ذو الأذرعة الأخطبوطية، يصلك بكل شيئ في أي وقت ومن أي مكان، فقلت لنفسي: أبشري بما كنت تتمنين، هاهو العلم ذا قد أتى إليك آخذاً بيدك إلى عوالم ساحرةٍ ملؤها المتعة واللذة في اكتشاف الجديد والبحث عمّا تريدين. وولجت باب الشبكة لأجد نفسي سابحاً في خضم بحر زاخر، بحر يموج علماً ومعرفة وتتناثر الدرر في طيّاته، ولم أجد ألذّ من عالمي المفضل، عالم اللغة العربية، فغذذت السير وحثثت الخطى سعياً إلى كل ما يزيد معرفتي بها ويمتع نفسي ويعطر جوفي بأريجها الزكي، وأشرعت صدري لنسائمها العليلة تنفحه وتملؤه عبيراً. وياللذة العلم وما أمتع أن يعرف الإنسان ما كان بالأمس يجهله، وكلما علمت شيئاً قلت لنفسي: ما كان أشد جهلي، وأقل علمي،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير