ماتت والدة السلطان عبدالحميد وهو في العاشرة من عمره فاعتنت به الزوجة الثانية لأبيه وكانت عقيماً. فأحسنت تربيته وحاولت أن تكون له أم، فبذلت له من حنانها كما أوصت بميراثها له. وقد تأثر السلطان عبدالحميد بهذه التربية وأعجب بوقارها وتدينها وصوتها الخفيض الهادئ، وكان لهذا انعكاس على شخصيته طوال عمره.
تلقى عبدالحميد تعليماً منتظماً في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً. وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية، ودرس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في علم التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية.
وتدرب على استخدام الاسلحة وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، ومحافظ على الرياضة البدنية، وكان مهتماً بالسياسية العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعناية فائقة ودقة ناردة.
وكان يرافق عمه في رحلاته الى اوروبا, أثرت رحلة عبدالحميد الى أوروبا في اتباعه سياسة استقلالية تجاه أوروبا. ولم يعرف عن عبدالحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه، مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب بين بلده وبين الدولة العثمانية.
ولفت انتباه عبدالحميد أثناء هذه الرحلة الحوار الذي كان يجريه فؤاد باشا الصدر الأعظم العثماني مع بعض الزعماء الأوروبيين:
سُئل فؤاد باشا أثناء هذه الرحلة: بكم تبيعون جزيرة كريت؟
فرد الباشا قائلاً: (بالثمن الذي اشتريناها به). وكان يعني بذلك: أن العثمانيين حاربوا في سبيل الحفاظ على جزيرة كريت 27 عاماً كلها حروب.
وسُئل فؤاد باشا أيضاً: (ماهي أقوى دولة في العالم الآن؟).
فرد قائلاً: (أقوى دولة الآن هي الدولة العثمانية. ذلك لأنكم تهدمونها من الخارج ونحن نهدمها من الداخل. ولم يستطع كلانا هدمها).
تعلم عبدالحميد من هذا درس القدرة على إسكات القوى التي تود تحطيم الدولة العثمانية. وتعلم ذكاء الحوار السياسي وهو مابرع فيه بعد ذلك.
وكان عمر عبدالحميد أثناء هذه الرحلة 25 عاماً.
بويع بالخلافة بعد أخيه مراد، يوم الخميس 11 شعبان 1293هـ 31 أغسطس 1876م. وكان عمره آنذاك اربعاً وثلاثين سنة.
وقد تكالبت عليه كل قوى الشر من الخارج والداخل, فاما من الداخل ,قال في مذكراته:"كنت أحس أنا أيضاً بأيدي هؤلاء الأجانب، ليست فوق كبدي، وإنما في داخله. إنهم يشترون صدروي العظام ووزرائي ويستخدمونهم ضد بلادي. كيف يحدث هذا وهم الذين أنفقت عليهم من خزانة الدولة ولا أستطيع معرفة ما يعملونه وما يديرون ويعدون؟ ,وبعدها اسس جهاز المخابرات (الجورنالجيه) حيث قال:"نعم، أنا أسست جهاز الجورنالجيه (المخابرات). وأنا أدرته. بعد أن رأيت صدروي العظام يرتشون من الدول الأجنبية مقابل هدم دولتهم والتآمر على سلطانهم أسست هذا الجهاز لا ليكون أداة ضد المواطن، ولكن لكي يعرف ويتعقب هؤلاء الذين خانوا دولتي في الوقت الذي كانوا يتسلمون فيه رواتبهم من خزانتها، وفي الوقت الذي كانت النعمة العثمانية تملؤهم حتى حُلُوقهم!! ".
كان جهاز السلطان عبدالحميد -خلال ثلاثين سنة- يخبر السلطان فور ظهور كل حركة ولذلك تمكن السلطان من اخماد كل تمرد داخلي في حينه.
واما من الخارج, حيث قال في مذكراته: (رأيت أثناء مؤتمر الدول الكبرى الذي عقد في استانبول ماعزمت عليه هذه الدول، وهي ليست كما يقولون تأمين حقوق الرعايا المسيحيين بل تأمين الاستقلال الذاتي لهؤلاء الرعايا. ثم العمل على استقلالهم التام، وبذلك يتم تقسيم الدولة العثمانية.
كانوا يعملون على تقسيم هذا الهدف على صورتين:
الأولى: إثارة الأهالي المسيحيين، وتعكير صفاء الجو، وبهذا تتصدى هذه الدول لحمايتهم.
والثانية: القول بالمشروطية، لإحداث الفرقة بيننا أنفسنا واستطاعوا أن يجدوا من بيننا أنصاراً يستخدمونهم في كلا الغايتين، وبكل أسف كان على خبز العدو شيء من السمن. فلم يستطع بعض الشباب العثماني المثقف أن يفرق بين التطبيق السهل والحكم الدستوري في بلاد تتمتع بوحدة قومية، وبين تعذر هذا الحكم في الدول التي لاتتمتع بوحدة قومية.
¥