ثم جاء عهد علي، رضي الله عنه، وحصل فيه ما حصل، من قتال، وظهر في آخره أول فرقة خرجت على الجماعة، ألا وهي "الخوارج"، فكانت هذه بداية الاختلاف في "الأصول"، إذ كان خروجهم بداية: سياسيا محضا، على علي، رضي الله عنه، لما قبل التحكيم، ومن ثم تطور إلى القول بتكفيره وتكفير عثمان وسائر الصحابة: أصحاب الجمل والحكمين وكل من رضي بالتحكيم، ثم تطور إلى قولهم الفاسد بتكفير مرتكب الكبيرة، فكفروا جمهور المسلمين، واستحلوا الدم والمال ورفعوا السيف على جمهور الأمة، ومن ثم فشا في متأخريهم قول المعتزلة في مسائل الأسماء والصفات، فضلا عن رد السنة بدعوى ارتداد نقلتها ....... إلخ من أقوالهم الفاسدة التي ظهر فيها اضطرابهم وتناقضهم.
وعلى الجانب الآخر، ظهرت بدعة الغلو في حب آل البيت، رضوان الله عليهم، حتى غلا البعض وادعى ألوهية علي، رضي الله عنه، فخد لهم أخاديد من نار وقذفهم فيها، وقال قولته الشهيرة:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ******* أججت ناري ودعوت قنبرا
وواكب ذلك ظهور بدعة القدح في الصحب الكرام، رضوان الله عليهم، وكان علي، رضي الله عنه، أول المناوئين لها، فقال على منبره في الكوفة: (لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري).
ورفع السيف مرة أخرى، ظلما وعدوانا، فقتل ابن ملجم المرادي، عليه من الله ما يستحق، أمير المؤمنين عليا، رضي الله عنه، فبايع الناس ابنه: الحسن، رضي الله عنه، الذي تنازل عن الخلافة لمعاوية، رضي الله عنه، حقنا لدماء المسلمين، فتحققت فيه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فعادت الوحدة السياسية للأمة، ولكن الوحدة العقدية لم تعد معها، بل ازداد الاختلاف في الأصول، فظهر في أواخر عهد الصحابة، رضوان الله عليهم، القول بنفي القدر على يد معبد الجهني، وهو القول الذي أنكره ابن عمر، رضي الله عنهما، كما في حديث يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عند مسلم.
الشاهد أن هذا القرن، مع كونه قرنا واحدا، ظهر فيه الاختلاف متفاوتا، من عهد الصديق وكبار الصحابة إلى عهد صغار الصحابة.
ولكن الملاحظ: أن الاختلاف طوال هذا القرن، لم يتعد مسائل "الأسماء والأحكام"، فظهر تكفير جماعة المسلمين والخروج عليهم من جهة، والإرجاء من جهة أخرى كرد فعل، ومسألة الكلام في أفعال العباد، فلم تظهر بدع التجهم والاعتزال في الأسماء والصفات، إذ لم يجرؤ أحد على الكلام في ذات الله، عز وجل، والصحابة متوافرون، فكان أصحاب البدع مقموعين، مستترين بأقوالهم، كما أشار إلى ذلك الدارمي، رحمه الله، في رده على المريسي.
وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام، رحمه الله، بقوله:
"وعامة ما كانت عليه القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه، أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة، فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق، ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث، تابعو التابعين، ينقرض أكثرهم".
وتناوله تلميذه ابن القيم، رحمه الله، بقوله:
"بدعة القدر أدركت آخر الصحابة فأنكرها من كان منهم حيا، كعبد الله بن عمر وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم، ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة، فتكلم فيها كبار التابعين الذين أدركوها، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين، واستفحل أمرها واستطار شرها في زمن الأئمة، كالإمام أحمد وذويه، ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول وظهر أمرها في زمن الحسين الحلاج، وكلما أظهر الشيطان بدعة من هذه البدع وغيرها أقام الله لها من حزبه وجنده من يردها ويحذر المسلمين منها، نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأهل الإسلام".
نقلا عن "تقريب التدمرية"، ص5، 6، للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله.
¥