ومن ثم ظهر خلاف "الجهمية"، أول من تكلم في مسائل الأسماء والصفات، وتلاهم المعتزلة، الذين زينوا للمأمون العباسي، غفر الله له، القول بخلق القرآن، فحمل الأمة عليه حملا، ولم يتورع القوم عن امتحان علماء الأمة، فوقعت المحنة التي كان بطلها الأول، إمام أهل السنة والجماعة: أحمد، رحمه الله، وكان هذا استمرارا للاختلاف العملي الذي يرفع فيه السيف والسوط على المخالف.
وفي نفس الدور تقريبا، ظهر ابن كلاب، رحمه الله، فرد على المعتزلة، كما رد أحمد، ولكنه خالف أهل السنة في أقوال، وإن كان أقرب المتكلمين للسنة، فكانت الكلابية، ومن بعدها الأشعرية، برزخا بين أهل السنة من جهة، والمعتزلة من جهة أخرى، وإن كان للكلابية والأشاعرة والماتريدية أياد محمودة في كسر شوكة المعتزلة.
وبمضي الزمن، ظهرت بدع جديدة، تولى كبرها، زنادقة من أبناء الأمم التي قهرها الإسلام، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وتأولوا كل نصوص الشريعة بتأويلات باطنية فاسدة، فسموا بـ "الباطنية"، وهم فرق كثيرة، لا زال بعضها موجودا إلى الآن كالإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرهم، وكان ظهورهم، أول ظهور لمنهج كامل وضعه زنديق خارج عن ملة الإسلام، فكل المناهج السابقة، بما فيها الجهمية وهي أشدها انحرافا، كانت من وضع منتسبين إلى الإسلام ظاهرا وباطنا، تأثروا بمناهج أخرى، فضلوا وأضلوا، وإن كان كثير منهم متأولا، ما أراد إلا الحق ولكن كم من مريد للحق لم يصبه!!!.
وظهر من عرف بـ "الفلاسفة الإسلاميين"، كالفارابي والكندي وابن سينا، الذين خلطوا الفلسفة اليونانية بالدين، فجمعوا بين متناقضين، وكان منهم ما كان.
وأما الصوفية، فقد ظهرت من زمن مبكر، ولكنها كغيرها من المناهج، أخذت في التطور، فمن صوفية أوائل كالجنيد، رحمه الله، كان غالب حالهم الاستقامة: عقيدة وشريعة، إلى صوفية أواسط كالغزالي، رحمه الله، خلطوا التصوف بالفلسفة، إلى صوفية أواخر، كابن عربي وابن الفارض، خرجوا عن ناموس الشريعة، وحالهم أشهر من أن يذكر.
وبدأت الأفكار في التلاقح، فأخذ المعتزلة نفي الصفات من الجهمية وأخذوا نفي القدر من القدرية النفاة وتأثروا بالخوارج في مسألة حكم مرتكب الكبيرة والخروج على أئمة الجور تحت ستار: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأصل الخامس عندهم، وتأثر كثير من متأخري الأشاعرة بمنهج الصوفية، حتى غلب على متأخريهم التصوف، وتأثر كثير من متأخري الصوفية بمناهج الفلاسفة وأفكار الباطنية ................ الخ.
وظهر التلاقح بين المذاهب الفقهية والعقدية، فغلب على متأخري الشافعية، رحمهم الله، مذهب الأشاعرة في الأصول والتصوف في السلوك كما هو حال الغزالي، رحمه الله، وغلب على متأخري الأحناف، رحمهم الله، الاعتزال حينا، كما هو حال الزمخشري، غفر الله له، والماتريدية حينا آخر، كما هو حال أبي منصور الماتريدي، رحمه الله، مؤسس المذهب، ثم استقر هذا الأمر في خلافة آل عثمان، إذ كانوا ماتريدية في الأصول أحنافا في الفروع متصوفة في السلوك.
الشاهد من هذا العرض السريع:
أن أسباب الخلاف دارت على ثلاثة محاور رئيسية:
الرأي: وهو يتعلق بالفقه، إذ ظهرت طبقة فقهاء أهل الرأي، الذين قدموا الرأي على النص في مسائل الفقه، وإن كان متقدموهم، كأبي حنيفة، رحمه الله، لم يعدلوا عن النصوص زهدا فيها أو إعراضا عنها، وإنما فشا الكذب في عصرهم فاحتاطوا في قبول السنة، ففاتتهم نصوص كثيرة لم تفت أهل الحديث من المنتسبين لمدرسة الأثر.
والكلام: وهو يتعلق بالعقائد، وقد تمثل في ظهور الفرق التي سبقت الإشارة إلى بعضها.
والتصوف: وهو يتعلق بالسلوك والزهد ...... إلخ، إذ غلا القوم فيه فخرجوا عن حد الاعتدال، فضلا عما وقعوا فيه من انحراف عقدي لازم هذا الانحراف السلوكي.
وثمة أمور يجب التنبيه عليها من أبرزها:
أن حصر الخلاف السائغ في مسائل الفروع، بمفهوم المتأخرين الذين قصروها على المسائل العملية الشرعية، وحصر الخلاف غير السائغ في مسائل الأصول، التي قصروها على المسائل العلمية العقدية، لا يسلم لهم فيه من جهة:
¥