ومسألة كزواج المتعة عند من استحله: مسألة عملية، الخلاف فيها غير سائغ، للإجماع على نسخه، فلا اعتبار لقول المخالف، وإن فرق العلماء بين من فعله عامدا عالما بحكمه، ومن فعله جاهلا مقلدا، كحال كثير من عوام من يستحلونه.
وهكذا في كل مسألة عملية.
ومما تجدر الإشارة إليه، أيضا، في هذا الموضع:
تفاوت المخالفين في درجاتهم، تبعا لقربهم أو بعدهم عن عصر النبوة، فكما تقدم: الأشاعرة خير من المعتزلة، والمعتزلة خير الجهمية ................. إلخ، بل يظهر هذا في أصحاب المنهج الواحد، فالأشاعرة من طبقة: إمام الحرمين: الجويني والغزالي، رحمهما الله، خير من طبقة الرازي والآمدي والبيضاوي، رحمهم الله، والأشاعرة من طبقة الباقلاني وابن فورك، رحمهما الله، خير من الجويني والغزالي، فهم يثبتون الصفات العقلية والصفات الخبرية ويتأولون صفات الأفعال، وأبو بكر البيهقي، رحمه الله، خير منهم فهو من فضلاء الأشاعرة الذين اعتنوا بالسنن والآثار وكتابه "السنن الكبرى" خير شاهد على ذلك، وأبو الحسن الأشعري، رحمه الله، خير من البيهقي، وابن كلاب والحارث المحاسبي، رحمهما الله، خير من الأشعري ...... وهكذا، كلما اقتربنا من عصر النبوة زاد الخير وقل الشر، والعكس صحيح.
ولذا كانت السلامة، كل السلامة، في التزام منهج السلف، من القرون المفضلة التي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم، فهم إلى عصر النبوة أقرب، وعلى فهم النصوص أقدر، لا سيما القرن الأول، الذين نزل الوحي بلغتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم، بين ظهرانيهم، فهم، كما تقدم مرارا، أعلم الناس بلغة الوحي ومقاصده.
ورحم الله الشافعي إذ يقول في رسالته:
(هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا).
وعن منهجهم يقول أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني، رحمه الله، في "الحجة في بيان المحجة":
(ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم من الديار، وسكون كل واحد فيهم قطرا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجيء على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا).
فالهدى، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه).
وعن فهمهم لنصوص القرآن والسنة يقول:
(وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل، وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس).
ولهذا، كما يقول الشيخ، رحمه الله، في موضع آخر:
(كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله: كالتفسير، وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك، فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم، وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
¥