دلت النصوص على أن المشركين كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق للكون أجمع. قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ"
و: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ"
إلى غير ذلك من الآيات العديدة في هذا الباب.
وهذا الاعتقاد بأن الله خالقهم وبأنه مالك الملك، هو أصل الإقرار بتوحيد الربوبية. ومع هذا الإقرار بأصل توحيد الربوبية، فقد وقعوا فيما يقدح في كماله وتمامه، حيث اعتقدوا أن ثَمَّت وسائط، وشفعاء يُتقرّب بها إلى الله. وقد نص الله سبحانه على هذا الاعتقاد في قوله تعالى: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ "
و قوله "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"
واتخاذ الوسائط يقدح في توحيد الربوبية لأنه لا يُحتاج إلى وسائط إلا لأحد الأسباب الثلاثة:
1. إما لإخبار الملوك بأحوال الناس التي لا يعرفونها.
2. أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ عَاجِزًا عَنْ تَدْبِيرِ رَعِيَّتِهِ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِ - إلَّا بِأَعْوَانِ يُعِينُونَهُ - فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ لِعَجْزِهِ عن القيام بجميع الأمور بنفسه.
3. أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ لَيْسَ مُرِيدًا لِنَفْعِ رَعِيَّتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِمْ: إلَّا بِمُحَرِّكِ يُحَرِّكُهُ مِنْ خَارِجٍ، كأحد قرابته، أو وزرائه، يعزّ عليه أن يردّ طلبه، لأنه يهمّه رضاه، ويخاف من إغضابه. [بتصرف من فتاوى شيخ الإسلام 1/ 126 - 127]
وهذه الثلاثة، الله سبحانه وتعالى منزّه عنها أتمّ تنزيه، إذ إنها تقدح في ربوبيته.
وبهذا يتبيّن، أن إيمان المشركين بتوحيد الربوبية لم يكن على الوجه الذي ينبغي. بل كان فيه خلل، وهو أنهم اتخذوا وسائط وشفعاء يتقربون بها – في زعمهم – إلى الله.
ولذا قد جاء التنبيه في القرآن على هذا الخلل في إقرارهم بتوحيد الربوبية، في عدة آيات. قال تعالى:" أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"
" وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى"
"وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ".
إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما يتعلّق بالإلزام – أخي أبا عبد الرحيم – فهو إلزام بما أقرّوه من أصل توحيد الربوبية، على إبطال اعتقاد الوسائط والشفعاء، ذلك الاعتقاد الذي هو خلل في توحيد الربوبية من جهة، وباعث على الشرك في الألوهية من جهة.
وبيان ذلك، أنهم لو فكّروا في اعتقاد وجود الوسائط والشفعاء، لعلموا أنه قادح فيما أقروا به من أصل توحيد الربوبية.
وأما ما يتعلق بأمرهم "بتكميل وإتمام توحيد الربوبية"
فالجواب: أن القرآن قد جاء بذلك، وذلك في الآيات التي جاءت في نفي الشفاعة وأنها لله جميعا. فَبِنْفي الشفاعة التي اعتقدها المشركون، يتمّ توحيد الربوبية، وينتج عنه - إذا لم يكن ثَمّ مانع آخر - توحيد العبادة لا محالة.
والله تعالى أعلم.