قلت: ونمثل للسقاف هنا بصفة الحلم. فإن الله عز وجل وصف نبيه إبراهيم بهذه الصفة فقال: {إن إبراهيم لأواه حليم} {التوبة: 114} وقال: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} {هود:75}. ووصف سبحانه وتعالى نفسه بنفس الصفة فقال: {والله شكور حليم} {التغابن:17} {وإن الله لعليم حليم} {الحج: 59} {إنه كان حليماً غفوراً} {الإسراء: 44} ولكن اختلفت كيفية الصفة في ذلك، ولا أظن أن السقاف يقول بأن حلم الله كحلم إبراهيم – والعياذ بالله – وإلا لكان هو المشبه.
وقال السقاف: (تأويل آخر للإمام أحمد: قال الحافظ ابن كثير أيضاً في ((البداية والنهاية)) (10/ 327): ((ومن طريق أبي الحسن الميموني، عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث، وعن حنبل، عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن)).اهـ. قلت – (القائل هو السقاف) -: وهذا تأويل محض، ظاهر، واضح، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، وعدم إرادته حقيقة ظاهره).
قلت: لا يصفو له هذا القول أيضاً في إثبات التأويل عن الإمام أحمد – رحمه الله – والجواب عنه من وجوده:
? الأول: أن الخبر قد أورده ابن كثير معلقاً، ولم يورده بإسناده حتى نحكم عليه بالثبوت أو البطلان!!
? الثاني: أن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ ((البداية والنهاية)) – كسابقه – فهو محل نظر، فكتاب البيهقي ((مناقب أحمد))، غير موجود بين أيدينا مطبوعاً حتى نحكم إذا ما كان هذا الخبر فيه حقاً، أم أن بعض المعطلة قد زاد هذه الزيادات في نسخة البداية والنهاية.
? الثالث: أن هذا الخبر قد أورده الذهبي في ((السير)) (11/ 245) بسياق آخر يدل على أن الإمام أحمد لم يؤول النص، بل فسره بنص آخر من القرآن. قال الذهبي – رحمه الله -: ((. . فقال بعضهم: {يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ فقلت: - (القائل: هو الإمام أحمد) -: قال الله: {ص *والقرآن ذي الذكر}، فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام)). فهذا النص يوضح مقصد الإمام أحمد ((يحتمل أن يكون ذكراً آخر))، فإن القرآن لا يطلق عليه (ذكر) بغير ألف ولام في القرآن. .، فكأنه قصد هنا سنة رسول الله ?، بل هو ما قصده. وقد خشى السقاف أن تنكشف حيلته، فحذف الشطر الأخير من الخبر، وهو: ((يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله ?)).
فدل ذلك دلالة واضحة على أن الإمام أحمد – رحمه الله – لم يتأول النص بما يخرجه عن ظاهره كما ادعى السقاف، بل فسره بالقرآن، فرد المتشابه إلى المحكم.
ثم قال السقاف: (تأويل آخر عن الإمام أحمد: قال الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 578): ((قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبدالله – أحمد بن حنبل:- ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص، عن عبدالله بن مسعود، قال: ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي .. وذكر الحديث. فقال أبو عبدالله – أحمد بن حنبل -: ما كان ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الأيام – يريد زمن المحنة – والمتن: ((ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)). وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق واقع هاهنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن).
قلت: هذا النقل دليل على جهل السقاف، وقلة بضاعته في العلم، أو تجاهله وتدليسه لإثبات مذهبه الردىء. فالتأويل يأتي بمعنيين:
الأول: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
والثاني: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.
والتأويل بالمعنى الثاني هو المذموم الذي عليه كثير من المتأخرين والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، وهو الذي يحاول السقاف إثباته على الإمام أحمد.
¥