وهذا المعنى الكلّي الموجود في الذّهن كان سبب ضلال كثير من النّاس، ومنهم الممثّلة فإنّهم تصّوروا أنّه يوجد في الخارج كما هو في الذّهن فطردوا التّمثيل في صفات الرّبّ تعالى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومعلوم أن العقل لا ينفي بالقياس إلا القدر المشترك ; الذي هو مدلول القضية الكلية التي لا بد منها في القياس ; مثل أن ينفي الإرادة أو الرحمة أو العلم المشترك بين مسميات هذا الاسم والقدر المشترك في المخلوقين تلحقه صفات لا تثبت لله تعالى فينفون المعنى المشترك المطلق على صفات الحق وصفات الخلق - تبعا لانتفاء ما يختص به الخلق - فيعطلون كما أن أهل التمثيل يثبتون ما يختص به الخلق - تبعا للقدر المشترك - وكلاهما قياس خطأ. ففي هذه الصفات بل وفي الذوات ثلاث اعتبارات: أحدها: ما تختص به ذات الرب وصفاته. والثاني: ما يختص به المخلوق وصفاته. والثالث: المعنى المطلق الجامع. فاستعمال القياس الجامع في نفي الأول خطأ وكذلك استعماله في إثبات الثاني) 11.
وقال أيضاً: (لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ; ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال) 12.
ولعلّ من المهم أن أختم كلامي هنا بما ذكره شيخ الإسلام أنّ التّعبير عن هذ المذهب بلفظ التّمثيل أولى من لفظ التّشبيه لثلاثة أسباب:
أوّلها: أنّه اللفظ الّذي جاء نفيه في القرآن: {ليس كمثله شيء}.
ثانيها: أنّ لفظ التّشبيه فيه إجمال، لأنّ نفي الشّبه بين الخالق والمخلوق من كلّ وجه لا يصح، بل بينهما نوع شبه وهو الاشتراك في مسمّى القدر المشترك وهو المعنى الكلّي العام القائم في الأذهان، وهذا القدر من الاشتراك هو نوع شبه لا يقتضي المماثلة في حقاءق الصّفات بين الخالق والمخلوق.
ثالثها: أنّ هذا اللفظ صار يطلقه الجهميّة وأفراخهم على من أثبت الصّفات فنفيه مطلقاً قد يُفهم منه نفي الصّفات، وإثباته قد يُفهم منه التّمثيل، وما كان هذا سبيله فاجتنابه أولى 130
التّفويض: (التجهيل).
لفظ التّفويض مأخوذ من: فوّض الأمر إلى الله: أي ردّه ووكله إليه، والمراد هنا أنّ العبد يفوّض امر الصّفات والأسماء إلى الله تعالى، وهذا من حيث الإجمال يتضمّن أمرين أحدهما حق والآخر باطل.
أمّا الحق فهو أنّ الواجب على العباد الإيمان والتّسليم للنّصوص الّتي وردت بصفات الله تعالى، وتفويض العلم بحقائقها وكيفياتها إلى الله تعالى لأنّ ذلك داخل ضمن الغيب والإيمان به، مثله في ذلك مثل الجنّة والنّار واليوم الآخر وعذاب القبر وسائر أمور الغيب.
وهذا هو مذهب السّلف وهو معنى ما جاء عنهم في التّفويض لكنّهم مع هذا يثبتون ما جاء في النّصوص من الصّفات ويعلمون معانيها ويمرّونها على ظاهرها.
وأمّا المعنى الباطل: وهو ما نقصده في هذا القسم: فهو أنّ النّصوص الّتي وردت بصفات الله تعالى لا يعلم أحد من النّاس معاني تلك الألفاظ، بل لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى، حتّى الرّسول لم يعلم ذلك ولا يعلمه، بل علينا قراءة هذه الألفاظ وتفويض العلم بمعانيها إلى الله.
ولم يقفوا عند هذا بل زادوا إلى ذلك قيداً مهماً وهو: مع الجزم بأنّ ظاهر تلك الألفاظ غير مراد.
وهؤلاء هم المفوّضة المبتدعة والّذين أحسن شيخ الإسلام رحمه الله حين سماهم باسمهم الحقيقي وهو: (أهل التّجهيل) إذ في ما ذهبوا إليه يلزم منه تجهيل الرّسل وأتباعهم والسّلف الصّالح، وقذفهم بهذه النّقيصة العظيمة، وهي أنّهم جاءوا بألفاظ لا يعرفون معانيها، وتلقّتها عنهم الأجيال الصّالحة المزكّاة بنصّ السّنّة والقرآن دون أن تفهم معناها، وهذه مسبّة وتننقّص في حق أفضل الخلق.
¥