فإذا عرف المؤمن أنّه لا يمكن أن يكون التّهمة موجّهة لله تعالى أو لرسوله e أو للغة، فلم يبق إلاّ أنّه هو المتّهم، إذا عجز عقله عن الفهم، والإدارك لمعاني هذه النّصوص ولم يتصوّر فيه الإثبات أو النّفي كما جاء عن الله تعالى وعن رسوله e فليؤمن بها كما جاءت وليسلّم وليتّهم نفسه، لا أن ينزّه نفسه الّتي ثبت لها النّقص عقلاً وشرعاً وبتّهم ربّه أو رسوله e أو اللغة الّتي أجمع عليه النّاس جيلاً بعد جيل، وهذا هو معنى ما قال الإمام أحمد حين قال فيما تقدم: (ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفي ذلك وأُحكم له فعليه الإيمان به والتّسليم له).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومعلوم للمؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره بذلك وأنصح من غيره للأمة وأفصح من غيره عبارة وبيانا بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته: كمل كلامه وفعله وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في كمال العلم والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين والغاية في قدرته على البلاغ المبين - ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة: يجب وجود المراد ; فعلم قطعا أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: حصل به مراده من البيان وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه وعلمه بذلك أكمل العلوم. فكل من ظن أن غير الرسول أعلم بهذا منه أو أكمل بيانا منه أو أحرص على هدي الخلق منه: فهو من الملحدين لا من المؤمنين) 7.
الممثّلة: (التّمثيل والتشبيه).
أشهر من عُرف عنهم التّمثيل والتّشبيه هم اليهود، فقد جاء في القرآن شيء من ذلك، قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} فردّ عليهم بقوله: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد}، وجاء في كتبهم المحرّفة وصف الله باجهل وبالتّعب فردّ الله عليهم بقوله: {وما مسّنا من لغوب}، ووصفوه باللهو فردّ عليهم بقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لا عبين}.
والنّصارى قالت بشيء من هذا التّمثيل حين نسبت إليه الولد.
ومن المنتسبين للإسلام عُرف تأثّر الرّافضة بمذهب التّمثيل والتّشبيه خصوصاً في متقدّميهم، ومن أشهر من عُرف عنه التّمثيل في الإسلام هشام بن الحكم الرّافضي ولعله أول من قال إنّ الله جسم وأصحابه كشيطان الطّاق والجواليقي8،، وكذلك يُروى عن داود الجواربي ومقاتل بن سليمان الخراساني ونعيم بن حمّاد المصري9.
قال شيخ الإسلام: (الزيادة في الإثبات إلى حد التشبيه هو قول الغالية من الرافضة ومن جهال أهل الحديث وبعض المنحرفين) 10.
وهذا المذهب إن صحّ عن هؤلاء معلوم فساده بضرورة العقل والشّرع والفطر السّليمة، والله سبحانه بيّن في مواضيع كثيرة أنّه لا يشبهه شيء ولا يماثله شيء بل ولا يدانيه، كما قال عزوجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقال: {ولم يكن له كفواً أحد} وقال: {هل تعلم له سمياً} وقال: {ولا يحيطون به علماً} وقال: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}، وغير ذلك كثير.
وسبب ضلال هؤلاء غلوهم في الإثبات وظنهم أنه هو ظاهر النّصوص، فهم في طرف والنّفاة في طرف آخر مع اتّاقهم على هذا الأصل، وفي هذا ملحظ مهم، وهو أنّك لا تجد فرقتان متقابلتان من أهل البدع إلاّ وجدتهما تتّفقان في أصل ثمّ تتفرّقا بناء على طريقة تعاملها مع النّص.
فأنت ترى أنّ الممثّلة مثّلوا الله بخلقه ظناً منهم أنه ظاهر النّص، ونفاة الصّفات عطّلوا النّصوص عن الصّفات وحرّفوا معانيها ظناً منهم أنّ ظاهرها هو التّمثيل، وهذا هو منشأ الخطأ.
لأنّ المتقرر ببدائه العقول ـ السّليمة من سفه المنطق والمناطقة ـ أنّه ما من شيئين موجودين إلاّ وبينهما قدر مشترك، وهو مسمى القدر المشترك الّذي لا يوجد أبداً في الخارج بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلاّ مقيّداً، فإذا قُيّد أفاد التّخصيص.
¥