وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية. ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها وإنما تكلم بما يناقضها وأراد من الخلق فهم ما يناقضها ; لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق. ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر. (وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى. ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض ويؤمر بها العامة دون الخاصة فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم) 20.
قال شيخ الإسلام راداً عليهم: (وتلخيص النكتة: أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية أو لم يعلموها وإذا علموها:
فإما أنه كان يمكنهم بيانها بالكلام والكتاب أو لا يمكنهم ذلك.
وإذا أمكنهم ذلك البيان: فإما أن يمكن للعامة وللخاصة أو للخاصة فقط.
فإن قال: إنهم لم يعلموها وإن الفلاسفة والمتكلمين أعلم بها منهم وأحسن بيانا لها منهم ; فلا ريب أن هذا قول الزنادقة المنافقين.
وإن قال: إن الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة فخاطبوهم بضرب الأمثال لينتفعوا بذلك وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية ; فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر: من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد. وذلك يقرر في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحض النفوس على عبادة الله وعلى الرجاء والخوف ; فينتفعون بذلك وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم ; إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشري ومقصود الرسل: حفظ النوع البشري وإقامة مصلحة معاشه ومعاده، فمعلوم: أن هذا قول حذاق الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا وغيرهما وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث.
فالفارابي يقول: " إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة " أو نحو هذه العبارة. وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع ويقول: " ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين ولا يمكن محمدا مع أولئك العرب الجفاة أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه لأنهم لا يرون فيه من العلم ما يقتضي العمل ". وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله ومن بعده: طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء وكذلك في كلام الرازي.
وأما الاتحادية ونحوهم من المتكلمين: فعليه مدارهم ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه لكن هؤلاء ينكرون ظواهر الأمور العملية والعلمية جميعا وأما غير هؤلاء فلا ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية. ومدار كلامهم: على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علما وعملا. وأما الخاصة فلا. وعلى هذا يدور كلام أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وسائر فضلاء المتفلسفة.
ثم منهم من يوجب اتباع الأمور العملية من الأمور الشرعية وهؤلاء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلاء فلاسفتهم. وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية.
فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلاد فلأن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى. فإنهم - كما قال ابن سينا -: " اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي ". وكل عقلاء الفلاسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلاسفة المشاهير ثم قد يزعمون أن الرسل والأنبياء حكماء كبار وأن الفلاسفة الحكماء أنبياء صغار وقد يجعلونهم صنفين.
ومن زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق وأحسن بيانا لها: فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين.
¥