ابن إسحاق يفهم من سياقها أن الأيمان بمعنى الأقسام (7) .. وورد النص بمعنى عقد اليمين وهو القسم، وهذا للقلب دخل فيه، وذلك قول الله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن بما عقَّدتم الأيمان» «سورة المائدة/ 89»، فقد أسند تعقيد الأيمان إلى القلب الحافظ ابن كثير، فقال: «أي بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها (8)»، وقال الشوكاني: «فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أولا يفعلن في المستقبل .. أي ولكن يأخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها (9)».
قال أبو عبدالرحمن: يشهد لهذا المعنى آية كريمة يوافق سياقها سياق هذه الآية، وهي قوله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم» «سورة البقرة/ 225» .. وقبل ابن كثير الزمخشري قال: «بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية (10)».
وقراءة «عاقدتم» هاهنا محمولة على معنى قراءة «عقدتم» بخلاف الآية من سورة النساء، لأن الآية من سورة النساء عن اليمين بمعنى القسم فتقتضي عقداً بالقلب، والآية من سورة النساء عن اليمين بمعنى صفة إحدى اليدين، وهي عن معاقدة من أطراف.
قال أبو عبدالرحمن: وقد أسلفت في مباحثي أن الأصل في فاعل متابعة الفعل من طرف واحد مثل سافر وعاقب، ومن طرف واحد فأكثر مثل ساير وقاتل، فقراءة عاقب هاهنا بمعنى متابعة العقد القلبي حتى يكثر ويتأصل، ويشهد لذلك قراءة التضعيف التي تعني التكثير، فكل ذلك لا يعني تكرار الحلف، وإنما نعني تكثر مقويات الحلف في القلب من التصميم على مقتضاه في المستقبل، ويعني ما ذكره النحاس من توكيد القسم بالحلف على الشيء غير غالط ولا ناس (11).
والتفريق بين الآيتين من سورتي النساء والمائدة تنزيل لمراد المتكلم الخاص المتعيِّن على أحد المعاني الجائزة لغة، لأن مراد المتكلم أخص من معاني اللغة .. واليمين بمجردها وبدون ذكر العقد تفيد توكيد مقتضاها من المحلوف عليه، فاكتفاء المفسر بهذا المعنى إلغاء لفعل العقد والتعقيد والمعاقدة .. والمحلوف له يرضى ويقنع بهذا التوكيد القسمي، فتكون اليمين تعاقداً بين طرفين، إلا أن الذي يكتفي بهذا المعنى يلغي دلالة الفعل الذي أسلفته، إذ العقد معنى زائد على الغاية من القسم، وهو عقد القلب على تنفيذ ما تعد به اليمين، وعلى مقتضاها دون غلط أو نسيان .. وأما الإشارة التي غفل الشادي عن دلالتها فهي قول الراغب عقب الآية من سورة المائدة: «ومنه قيل: لفلان عقيدة (12)»، لأن ضرورة اللغة وتصاريفها للدلالة على أنواع المراد تقضي التسمية بالعقيدة لما يفعله العقد، وهو منسوب إلى عقد القلب بدلالة اللغة والسياق والآية من سورة البقرة .. وكل فعل منه فاعل ومفعول واسم للفعل ومفعوله.
الوقفة السابعة: إذن عقيدة القلب معنى شرعي بضرورة الاستنباط من الآية من سورة المائدة، وهي أعم من المعنى الاصطلاحي .. وعلى هذا المعنى أصَّل اللغويون صيغ المادة مما يثبت استعمال العقيدة في المعنى الأعم .. قال نشوان بن سعيد الحميري «573 ه»: «اعتقد الدين وغيره: أي عقد عليه قلبه (13)»، وقال الزبيدي «1205 ه» مستدركاً: «اعتقد كذا بقلبه (14)» ... وما انعقد عليه الشيء فذلك الشيء في أثنائه، وقد جاء الاعتقاد الذي منه المعتقد والعقيدة في مجاز عربي بعيد .. قال ابن فارس رحمه الله: «اعتقد الأرض حياسنتها .. وذلك إذا أمطرت حتى يحفر الحافر الثرى، فتذهب يده فيه حتى يمس الأرض بأذنه وهو يحفر والثرى جعد (15)»، يريد أنها اكتفت في بطنها مطر سنتها. قال أبو عبدالرحمن: لا نزال في ألف باء الوقفات، فإلى لقاءٍ إن شاء الله.
الحواشي:
«1» بينت كثيراً: أنه لا عبرة بحركة الحرف الذي قبل الألف المهموزة، وأنه لا مسوغ لرسم رأسها على الواو .. وأن رأسها يرسم على الياء إذا كانت مكسورة لوجود دليل التصحيح، ولمسوغ معتبر وهو حسن اتصال حروف الكلمة مع كراهة توالي ألفين.
«2» من فوائد النقطتين الأفقيتين استئناف الكلام، وبيان أن ما بعدهما ليس من مقول القول.
«3» في المعتاد رسم رأس الألف المهموزة على نبرة هكذا مليء .. ومنهم من يكتب هكذا مليئ، وهو أصح لوجود مسوغ للنبرة، والصحيح الراجح ما رسمته.
«4» مقاييس اللغة ص 679.
«5» الكشاف 1/ 361.
«6» معاني القرآن 1/ 451.
«7» تفسير ابن كثير 1/ 600.
«8» تفسير ابن كثير 2/ 115.
«9» تفسير ابن كثير 2/ 89.
«10» الكشاف 1/ 705.
«11» إعراب القرآن 1/ 38 .. وكذلك ما ذكرته من معنى المتابعة .. ونفس تكرار الحلف يندفع بما أورده النحاس في هذا الموضع.
«12» المفردات ص 577.
«13» شمس العلوم.
«14» تاج العروس.
«15» مقاييس اللغة ص 680.
http://search.suhuf.net.sa/2001jazhd/dec/22/ar.htm
ـ[أنور باشا]ــــــــ[22 - 01 - 03, 01:43 ص]ـ
شكراً لك أخي ..
ـ[محمد الأمين فضيل]ــــــــ[22 - 01 - 03, 11:08 ص]ـ
جزاك الله خيرا
وقد كنت قرأت المقال منذ زمن لكني لم أكن أعرف من هو المقصود بالرد
¥