هؤلاء المرتدِّين لأجل استحباب الدُّنيا على الآخرة هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنَّهم الغافلون. ثم أخبر خبراً مؤكَّداً محقَّقاً أَنَّهم في الآخرة هم الخاسرون.
وهكذا حال هؤلاء المرتدِّين في هذه الفتنة، غرَّهُم الشيطان وأَوهمَهم أَنَّ الخوف عذرٌ لهم في الرِّدَّة، وأَنَّهم بمعرفة الحق ومحبَّته والشَّهادة به لا يضرُّهم ما فعلوه. ونَسَوا أَنَّ كثيراً من المشركين يعرفون الحقَّ، ويحبُّونه ويشهدون به ولكنْ يتركون متابعتَه والعملَ به: محبَّة للدُّنيا وخوفاً على الأنفس والأموال والمأكل والرِّياسات. ثم قال تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّل اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ (2) ? فأخبر تعالى أنَّ سبب ما
جرى عليهم من الرِّدَّة وتسويل الشيطان، والإملاء لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزَّل الله: سنطيعكم في بعض الأمر.
فإذا كان مَنْ وَعَد المشركين الكارهين لما نزَّل الله بطاعتِهم في بعض الأمر كافراً، وإنْ لم يفعل ما وعدَهُم به. فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما نزَّل الله من الأمر: بعبادته وحدَه لا شريك له …
وقد قال تعالى في موضعٍ آخر: ?يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (1) ?.
ففي هاتين الآيتين البيان الواضح: أَنَّه لا عذرَ لأحدٍ في الموافقة على الكفر، خوفاً على الأموال والآباء، والأبناء والأزواجِ والعشائر، ونحو ذلك مما يعتذر به كثيرٌ من النَّاس.
إذا كان لم يرخِّص لأحد في موادَّتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم: خوفاً منهم وإيثاراً لمرضاتهم. فكيف بمن اتَّخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحاباً، وأظهر لهم الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور ومحبَّةً لها؟! ومن العجب استحسانهم لذلك واستحلالهم له. فجمعوا مع الرِّدَّة استحلالَ المحرَّم)) (2).
وقال في "تيسير العزيز الحميد":
((من استهزأ بالله، أو بكتابه أو برسوله، أو بدينه، كفرَ ولو هازِلاً لم يقصِد حقيقةَ الاستهزاء؛ إجماعاً.
قال: وقول الله تعالى: ?وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ? (1).
الشرح: يقول تعالى مخاطباً لرسوله? ? وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ? أي سألت المنافقين الَّذين تكلَّموا بكلمة الكفر استهزاءً ?ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ? أي: يعتذِرونَ بأَنَّهم لم يقصدوا الاستهزاء والتَّكذيب، إِنَّما قصدوا الخوضَ في الحديث واللَّعِب: ?قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ? لم يعبأ باعتذارهم إِمَّا لأَنَّهم كانوا كاذبين فيه، وإِمَّا لأَنَّ الاستهزاء على وجه الخوضِ واللَّعِب لا يكون صاحبُه معذوراً، وعلى التقديرين فهذا عذرٌ باطلٌ، فإِنَّهم أخطئوا موقعَ الاستهزاء. وهل يجتمع الإيمان بالله، وكتابه، ورسوله، والاستهزاءُ بذلك في قلب؟! بل ذلك عينُ الكفرِ فلذلك كان الجواب مع ما قبله ?لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ? قال شيخ الإسلام: فقد أمره أنْ يقول: كفرتم بعد إيمانِكم. وقول من يقول: إنَّهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانِهم مع كفرهم أوَّلاً بقلوبهم لا يصحُّ، لأنَّ الإيمان باللِّسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر. فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانِكم فإِنَّهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإنْ أُرِيد: إِنَّكم أظهرتُمُ الكفرَ بعد إظهارِكم الإيمان، فهم لم يُظهروا ذلك إلاَّ لخوضهم، وهم مع خوضهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذِروا أنْ تنزِل عليهم سورَةٌ تبيِّنُ ما في قلوبِهم من النِّفاق وتكلَّموا بالاستهزاءِ، أي: صاروا كافرين بعد إيمانهم. ولا يدلُّ اللفظ على أَنَّهم مازالوا منافقين إلى أَنْ قال تعالى: ?وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ? فاعْتَرَفوا ولهذا قيل: ?لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً? فدلَّ على أَنَّهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أَتَوا كُفْراً، بل ظنُّوا أَنَّ ذلك ليس
¥