فجميع ما ذكر فيه من امثله من قبيل المصالح المرسله لا من قبيل البدعه المحدثه , والمصالح المرسله قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابه ومن بعدهم , فهي من الاصول الفقهيه الثابته عند اهل الاصول وان كان فيها خلاف بينهم , ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه.
اما جمع المصاحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب إذ انزل القرآن على سبعة احرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب لاختلاف لهجاتهم , فكانت المصلحه في ذلك ظاهره , إلا انه عرض في اباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح باب الاختلاف في القرآن , حيث اختلفوا في وجوه القراءة. فخاف الصحابه رضوان الله عليهم اختلاف الامه في ينبوع الملة , فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه واطرحوا ما سوى ذلك علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما اثبتوه , لان من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن.
واما قسم المندوب:
فليس من البدع بحال ويتبين ذلك بالنظر في الامثله التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعه في المسجد , فقد قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد واجتمع الناس خلفه.
ففي صحيح البخاري عن عائشه رضي الله عنها: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليله فصلى بصلاته ناس , ثم صلى من القابله فكثر الناس , ثم اجتمعوا من الليله الثالثه او الرابعه فلم يخرج اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما اصبح قال: قد رايت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إلا اني خشيت ان تفرض عليكم وذلك في رمضان) (6).
فدل هذا الحديث على كونها سنه , فإن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم اولا دليل على صحة القيام في المسجد جماعه في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا لان زمانه كان زمان وحي وتشريع فيمكن ان يوحى اليه اذا عمل به الناس بالإلزام , فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع الامر الى اصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له.
وإنما لم يقم ذلك ابو بكر رضي الله عنه لأحد امرين:
1 - إما لأنه رأى ان قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان افضل عندهم من جمعهم على امام اول الليل.
2 - وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الرده وغير ذلك مما هو اوكد من صلاة التراويح.
وأما القسم المباح:
فذكر مسألة المناخل وليست في الحقيقه من البدع بل هي من باب التنعم ولا يقال فيمن تنعم بمباح: انه قد ابتدع وإنما يرجع ذلك –إذا اعتبر – الى جهة الاسراف كما يكون في جهة الكميه , فالمناخل لا تعدو القسمين فإن كان الاسراف من ماله (ولم يكره اغتفر وإلا فلا مع ان الاصل الجواز) (7).
أما قسم التحريم:
فليس فيه ما هو بدعه هكذا بإطلاق , بل ذلك كله مخالفه للأمر المشروع فلا يزيد على التحريم اكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعا على وزان الاحكام الشرعيه اللازمه كالزكوات المفروضه , والنفقات المقدره فلا يصح ان يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعه دون ان يقسم الامر في ذلك.
وأما القسم المكروه:
ففيه اشياء هي من قبيل البدع في الجمله ولا كلام فيها كتخصيص بعض الليالي او الايام بنوع من العباده , والزياده في المندوبات المحدوده شرعا فإن الاحتياط في العبادات المحضه أن لا يزداد فيها ولا ينقص منها , وذلك صحيح لان الزياده فيها والنقصان منها بدع منكره فحالاتها وذرائعها يحتاط في جانب النهي (8).
وبعد ان انتقد الشاطبي هذا التقسيم وعابه ذكر ما وقع فيه القرافي من تناقض في عرضه لهذا التقسيم.
فقال: " وقوله: فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات قديمه وربما وجبت في بعض الاحوال , مفتقر الى التامل ففيه – على الجمله – انه مناقض لقوله في آخر الفصل (الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع) مع ما ذكر قبله , فهذا الكلام يقتضي أن الابتداع شر كله , فلا يمكن ان يجتمع مع فرض الوجوب. وهو قد ذكر ان البدعه قد تجب , وإذا وجبت لزم العمل بها وهي لما كانت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الامر بها والامر بتركها. ولا يمكن فيهما الانفكاك – وان كانت من جهتين لإن الوقوع يستلزم الإجماع وليست الصلاه في الدار المغصوبه لإن الانفكاك في الوقوع ممكن , وهاهنا: إذا وجبت فإنما تجب
¥