قال ابن حجر: ... و قال ابن الجوزي: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً، وإنما قيل: إن معنى قوله: (لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي) أي ضَيَّقَ، و هي قوله: (و من قُدِر عليه رزقه) أي ضيق، و أما قوله – في رواية -: (لعلي أضل الله) فمعناه لعلي أفوته، يقال: ضل الشيء إذا فات و ذهب، و هو كقوله: (لا يضل ربي و لا ينسى) و لعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه و خوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي و أنا ربك، و يكون قوله: (لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي) بتشديد الدال؛ أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني، أو على أنه كان مثبتاً للصانع و كان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان. و أظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته و غلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، و لم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل و الذاهل و الناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، و أبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر.اهـ.
قلت: و هذه التأويلات لا وجه لصرف ظاهر النص إليها، و لا قرينة تدل عليها، و إنَّما صار إليها من قال بها تحرُّجاً من القول بالعُذر بالجهل في أصول الدين، فلجأ إلى التأويل، و أبعدَ في الطلب.
و قد شنَّع ابن حزم على من جاء بها – و إن لم يسمِّه - فقال رحمه الله: و قد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى قوله (لئن قدر الله علي): إنما هو لَئِن ضيَّق الله علي، كما قال تعالى: (و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)؛ و هذا تأويل باطل لا يمكن؛ لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، و أيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق و يُذَرَّ رماده معنى، و لا شك في أنه إنما أمره بذلك ليُفلت من عذاب الله تعالى.اهـ. [الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 141، 142].
ثانياً: سؤال الحواريين نبي الله عيسى عليه و على نبيِّنا الصلاة و السلام، و قولهم الذي حكاه الله عنهم في كتابه: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ) [المائدة: 5/ 112].
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: (فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ و لم يبطل بذلك إيمانهم، و هذا ما لا مخلص منه، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها) [الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 142].
و ممَّن خالف مذهب الجمهور في مسألة العذر بالجهل، من لم يجد ما يمكن أن يؤوِّل به هذه الآية الكريمة، فصار إلى إمرار الآية على ظاهرها، و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة - وهي قراءة علي و عائشة و ابن عباس و مجاهد. [انظر: تفسير القرطبي: 6/ 365 و الطبري: 7/ 129 و ابن كثير: 2/ 117 و فتح القدير: 2/ 93].
و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي: (قال الزجاج: هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، و قيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف) [تفسير القرطبي: 6/ 365].
و روى رحمه الله في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها: (كان القوم أعلم بالله عز و جل من أن يقولوا: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ). قالت: و لكن: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ).
و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله، و لا يكون ممَّا يُكفِّر، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل، فضلاً عن وقوعه.
و لكن لا تقوم حجة بهذا التفسير في مقابل حجة الجمهور على القراءة المشهورة، بل غاية ما يمكن أن يقال – تنزلاً – أن كلا القولين محتمل، و لكن رأي الجمهور يؤيده الدليل السابق، و ما سيأتي، فيبقى عليه المعوَّل، و به الفتيا، و الله أعلم.
¥