تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إن العبد وهو تحت سيطرة ذلك الغرور، كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها فيكون مقصرا في العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فتراه يتحرج من ترك واجب من واجبات الدين وقد ترك ما هو أهم وأعظم منه وأوكد، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من المحرمات ما هو أشد تحريما وأعظم إثما، بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الجماعة وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى وأبغضهم إليه -كما وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله-، مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه، بل ما أكثر من يتعبد لله تعالى بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كمن يتقرب إلى الله تعالى بالغيبة والطعن في الناس وهو يظنها من باب الجرح والتعديل، وكمن يتقرب إلى الله تعالى بالسماع الشيطاني ويظن أنه من أولياء الرحمن وهو في الحقيقة من أولياء الشيطان.

الثانية: عدم تقديره الله حق قدره، واعتقاده أنه سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق ويعزه وينصره في مناظراته ومجادلاته، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعتقد أن الله يذل عبده القائم بدينه، فيعيش عمره مظلوما مقهورا مستبدا مستعبدا مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهي عنه باطنا وظاهرا، فهو يرى نفسه قائما بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان دون الإفراط وفوق التفريط، وهو مع استقامته تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان، فيعطي الدنية في دينه ويجبن عن الصدع بالحق في وجه خصمه كائنا من كان، وهذا قدح بين في إيمان من هذا حاله وتوحيده، فلا إله إلا الله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.

الثالثة: إن الدنيا مرقاة الآخرة، وإن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه؛ من جلب النفع ودفع الضر بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح، فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابعة السنة ينافي ذلك بحيث يفوت عليه نصيبه من الدنيا، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك كله ومن غيره مما يطول ذكره إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد لا يرضى لنفسه إلا أن يكون مع الظالمين أنفسهم المسيئين لها ولغيرهم، وقد يدخل مع المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسى كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا".

والمقصود أن الرجل إذا اعتقد الثنائية المتناسبة عكسا في نظره من أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه من حصول ضرر لا يحتمله وفوات منفعة لا بد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر ولا تفويت تلك المنفعة، فيترجح عنده إيثار دنياه التي لا تكون إلا بتفويت دينه، فسبحان الله يا له من ظن فاسد أصله ناشئ من جهل كبير، جهل بحقيقة الدين وعدم فهمه والفقه فيه، وجهل بحقيقة الدنيا وحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها وبه ابتهاجها والتذاذها، ولأي شيء خلق الإنسان ولأي شيء خلقت الدنيا، ومن هو أحق بالدنيا وبالتمكين فيها أهو المسلم المؤمن بالله ورسوله أم الكافر والمنافق، فيا لها من فتنة قد صدت الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين مرورا بالدنيا، فتولد إعراض جماعي للمسلمين عن حقيقة دينهم ودنياهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير