تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكلا الطرفين من أرباب الحروف والأحوال مذموم، فإن العقل شرط في معرفة العلوم ودركها، وصلاح الأعمال وكمالها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، ولا له السيادة المطلقة في العلم والعمل، فهو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإنه لا يدرك الحقيقة إلا بشمس الوحي من الكتاب والسنة، فلابد له منهما في صحته وسلامته، و إلا لازمه السقم حتى الموت، وإن انفرد بنفسه فقد يبصر ما لا ينفعه في الآخرة، وإن أبصر ما فيه منفعة فهي مقصورة على الدنيا، لكنه لا يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها والتي لابد له فيها من النبوة، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة والحيوان.

فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة وقد تكون فاسدة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة بائرة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم العقل امتناعه، فجاءت بمحارات العقول ولم تأت بمحالات العقول، لكن المسرفون في العقل من أرباب الكلام والحروف من المتكلمين قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم، اعتقدوها حقا وهي باطل معارض للعقل الصريح، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم، وكلما ابتعد العبد عن النبوة كان له نصيب إما من الإفراط في رفع العقل وأي عقل؟ عقل المتكلمين، وإما إلى التفريط فيقترب من حال من لا عقل له، وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث تارة بعزل العقل عن محل ولايته، وتارة بمعارضة السنن به، وهذا مشاهد عيان فلا أحد يستطيع أن ينكره، وقد كانت لنا ولغيرنا من ذوو الفهم جولات وجولات معهم ولازالت.

ونظير هذا الإسراف لدى المتكلمين في العقل التمييزي، يوجد مثله لدى الصوفية في الوجد القلبي، فإنهم صدقوه وعظموه وأسرفوا فيه حتى جعلوه هو الميزان، وهو الغاية، مثلهم مثل أولئك في العقل تماما، ثم كان لهم جولات من الطعن والعيب فيما عند الآخر بإطلاق ودون تمييز، فالمتكلمين ذموا ما عند الصوفية من وجد وأحوال، والصوفية ذموا ما عند المتكلمين من عقل، وسبب ذلك أن أهل الحرف لما كان مطلبهم العلم وبابه هو العقل، وأهل الصوت لما كان مطلبهم العمل وبابه الحب، صار كل فريق يعظم ما يتعلق به هو، ويذم ما يتعلق به الآخر، فصار محجوبا بما عنده عما عند غيره، مع أنه لا بد من علم وعمل، ومن حب وتمييز وحركة وحال، فالحرف مرقاة العلم والصوت مرقاة العمل، وكلاهما إذا كان موزونا بالكتاب والسنة كان هو الصراط المستقيم والمنهج القويم، الذي يرفع العبد ويرفع الأمة إلى أعلى المقامات، فلا تكون أمة كلام دون عمل ولا تكون أمة خرافات وخزعبلات وتواكلات، بل أمة متمكنة من دينها ودنياها، قائمة بشرع الله سبحانه وتعالى ظاهرا وباطنا، ناصرة لكلمة الله عز وجل.

والمقصود أن على المسلمين أن يتخلصوا مما ورثوه من آراء الرجال ومنطق اليونان، ومن أحوال الشيطان وأعوانه، ويجددوا دينهم بتحقيق ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، واتبعه فيه صحابته الكرام رضوان الله عليهم، ثم التابعين لهم بإحسان، من الأولين والآخرين، ولا يتم ذلك إلا بتصفية ماء النبوة الزلال مما علق به ثم تراكم وترسب عند كثير من الناس من المفاهيم والأفكار الخاطئة، والتي لا تمت إلى الإسلام بشيء من الوصال، ولا حتى بشيء من العقلانية والموضوعية.

فلقد ورث المسلمون كما هائلا من أراء الرجال -متكلمين وصوفية ونظار ومفكرين وفقهاء-، وبجهلهم ودون تحقيق جعلوها هي الدين وهي منهج السلف الصالح، فجنوا على قائليها عند من لا يعرفهم ولا يقدرهم حق قدرهم، وجنوا على الرعيل الأول إذ نسبت إليهم وهم براء من كثير منها، ثم جنوا على هذه الشريعة، إذ أظهروها في أعين الغير ضعيفة عقيمة لا تصلح لمسايرة مستجدات العصر بكل مشاكله وأطروحاته، ولا لقيادة الأمة والنهوض بها من الأوحال الغارقة فيها منذ أن تركت الكتاب والسنة على هامش الحياة، فسلطوا عليها الفلاسفة والمستشرقين في هذا العصر وأفراخهم من العلمانيين واللبراليين والمدعون للمنهج

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير