تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال بعض أهل العلم أن المقصد من التخبؤ لها في حديث جابر هو أن يرى منها محاسن سلوكها ومعاملتها للناس، هل تنظر الى الرجال أم لا، هل تذهب الى مواطن الشبهات، هل تخالط من ليس لها مخالطتهم من الرجال الاجانب، هل تمازحهم، هل كذا، هل كذا؟ ونقول أن ظاهر اللفظ لا يدل على هذا. فليس هو مقصد التخبؤ لها – وان كان من الممكن أن يدخل فيه ولا شك، ففي أي حال لو أنه رأى منها ما يريبه فانه سيدع الأمر كله .. وبما أن هذه المسائل السلوكية تحتاج عادة الى مراقبة طويلة للحكم عليها بانصاف، وفي الغالب فان المتقدم الى فتاة ليخطبها فانه سيكون قد أوفى ما يريد معرفته عن دينها وعن سلوكها من الثقات ممن يعرفونها سؤالا عنها من قبل، فان التخبؤ لهذا الغرض لن يكون له حاجة حينئذ! فكيف يفهم جابر من وصية النبي عليه السلام أنه يحتاج الى الرؤية بعينه لما يكفي فيه خبر الثقة العدل بشأنها؟ لولا أنه فهم أنه يحتاج الى النظر الى ما لا يغني خبر الثقة فيه عن رؤيته بالعين، لما أقدم على ذلك، ولكفاه وصف الواصفين لها ولسلوكها بل ولصورتها! فتعليلهم هذا واهن بعيد، مخالف لما يظهر من النص.

والحاصل أن الذي يظهر والله أعلم بالصواب، أن الضابط الأسلم في ذلك هو على وفق مذهب الحنابلة من عدم تقييد النظر بالوجه والكفين بالذات، بل يجعل حد ذلك هو ما يظهر من المرأة عادة في بيتها بين محارمها – على عادة السلف الصالح - ولا يزاد على ذلك، ولا يطُلب ما يجاوزه، لدلالة العادة على أن النظر الى هذا القدر من المرأة – يعني ما تكشفه في العادة في بيتها - لا يحتاج الخاطب الى تجاوزه لرؤية ما يرغبه في نكاحها ..

الخلاصة:

قد تبين بحول الله وقوته أن نظر الخاطب الى المخطوبة طلبة مرغوبة وسنة مستحبة مندوبة، وليس حكمه عند حد الاباحة فحسب ..

كما تبين أن قول الجمهور بأن حاجة الخاطب تندفع بمجرد النظر الى الوجه والكفين دون غيرهما، هو قول لا برهان عليه، وان صح في حق رجل بعينه او امرأة بعينها فلن يصح بالضرورة في سائر الناس .. بل قد يحتاج الخاطب الى أكثر من ذلك، تبعا لما يفهم من حديث جابر رضي الله عنه وغيره مما في الباب من الأدلة .. وعند التأمل فمن النساء من لا يظهر جمال وجهها الا بانكشاف شعرها – مثلا – فيكون من الخير لها والأعدل في حقها ألا تحرم الخاطب من رؤية حسن صورتها على نحوها الكامل، فيصد عنها من مجرد رؤية وجهها في الخمار، مع أنها قد تعجبه لو رآها حاسرة الرأس.

فتبين أن المذهب الذي ترتاح اليه النفس في ذلك – والله أعلم - هو جواز نظر الخاطب الى ما يظهر من المرأة على الحال الذي تكون عليه عادة في بيتها وسط محارمها، فينظر الى الوجه والشعر (الرأس) والرقبة والكفين والقدم وان ظهر له شيء من الساق فلا حرج، وهو مفهوم قول الحنابلة بأنه ينظر الى ما يظهر منها عادة، والله أعلى وأعلم بالصواب ..

والذي أراه أوسط الطرق في ذلك في ظل أحوالنا وبيتونا في زماننا هذا، فأراه أسد للذرائع وأوفى للمراد والمقصود من النظر في الخطبة باذن الله، أن تحرص الفتاة من نفسها اذا ما علمت أن خاطبا سيأتي لزيارتها في بيتها – منفردا – لرؤيتها، أن تخرج له – في وجود أسرتها – حاسرة الرأس والرقبة، مكشوفة اليدين، برداء فضفاض، ولا تتكلف ستر قدميها بل تكون على ما تلبس في قدميها عادة في بيتها، ولا تزين شعرها بزينة مخصوصة وانما ترسله على طبيعته كما تكون في بيتها بين محارمها، ولا تتكلف أن تتزين في وجهها منعا لوقوع الغرر ولعدم الدليل على مشروعيته في تلك الحال، ولا تتطيب له لعدم الدليل على اباحة ذلك للخاطب تمييزا عن غيره من الرجال الأجانب، فيبقى على الأصل .. فان فعلت ذلك ونظر الخاطب الى هذا منها، فما أظنه سيحتاج الى أكثر من هذا ليتبين ما اذا كانت تعجبه أو لا تعجبه، بل هو كاف جدا – باذن الله – لتحقق المقصود .. ولو أنه احتاج لتكرار تلك الزيارة والنظر فله ذلك كما تقرر في كلام أهل العلم على نحو ما تقدم نقله، وهو فرصة للمخطوبة أيضا لأن تنظر اليه وتتبين المرة تلو المرة ان كان يعجبها .. فان قررت من الزيارة الأولى أنه لا يعجبها، انتهى الأمر ولا تكرار.

فلتدع الأخوات عنهن التشدد بالجهل، فما ظهر غلو ولا تشدد الا من جهل بالسنة المطهرة، وما يؤدي ذلك منهن الا الى فساد مقصد الخطبة نفسها وتعرض الخاطب للغرر بعد الزواج، ولا يخفى ما قد يسببه ذلك بعد الزواج من نفور بين الزوجين .. ونحن في زمان فتن، يحاصر الرجل بصور العري والتهتك في كل مكان، فان لم يجد في امرأته التي اختارها وهو راض بصورتها وخلقتها، ما يعلم أنه يغنيه عن النظر الى غيرها من النساء، ويكفيه لقضاء شهوته، فانه ستكون فتنة في الأرض وفساد عظيم! فلتعن الفتاة خاطبها على أن يرى منها ما يرغبه فيها، في حدود الشرع المطهر، ولا تتحرج من ذلك، فان ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم، أحرى أن يؤدم بينهما، والله نسأل أن يهدي المسلمين والمسلمات، وأن يوفقهم الى الحق والخير والبر في القول والعمل .. انه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ..

وأنهي هذه الرسالة عند هذا الحد، فما أصبت فيها فمن الله الكريم المنان وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وان كان نصيبي الخطأ فيما ذهبت اليه فالله أسأل ان أكون من أهل الأجر الواحد في ذلك،

والحمد لله رب العالمين.

وكتبه

أبو الفداء بن مسعود

تحريرا في العاشر من رمضان، في العام 1429 من الهجرة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير