تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإن الحاجة إلى هذه الآثار لا تزال تزداد أضعافاً مضاعفة في هذا العصر المادي المجرم، عصر الغثاء والحثالة، الفاسد أهله - إلا من استثناه الله، وقليل جداً ما هم – عصر طغيان الشهوات البهيمية، والكفر والإلحاد والبدع والضلالات، والفتن والمحن، والحضارة الممهدة للدجال، عصر سيطرة أعداء الأنبياء على أهل الأرض، عصر المعيشة الضنك نعوذ بالله منها، عصر حب الدنيا وكراهية الموت، وعبادة الدرهم والدينار والزوجة والقطيفة.

إنه لا غنى بأهل عصر من الأعصر المتوسطة والمتأخرة عن علم السلف الصالح، بل إن النصائح والوصايا في باب الزهد والتربية لا يكاد يحسنها سواهم، فلا يحسن منا سوى أن نُعنَى بكلامهم في هذا الباب جمعاً وحفظاً وسمعاً وفهماً وتأليفاً وتوضيحاً وتصنيفاً وتنقيحاً، وأما الإضافة إليه أو الاستدراك عليه أو المخالفة له أو الاستغناء عنه: فهيهات؛ لقد كان كلامهم قليلاً مباركاً كثير النفع وأما كلام الخلف فكثير قليل النفع؛ ولقد كان السلف يتكلمون بكلام كأنه الدر فتكلم أقوام من بعدهم بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء!

يا باريَ القوسِ برياً ليس يُحْكِمُهُ ... لا تُفسِدِ القوسَ واعطِ القوسَ باريها

نعم، هي كذلك، ثم هي بقية نور أصيل في هذه الحياة المظلمة، لولا بقايا أنوار السراج المحمدي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (1) وهي صدى نداء قديم ناصح يحذر الناس عبادة الدنيا وأهلها، ويدعوهم إلى عبادة رب كل شيء ومالكه وخالقه، الذي يُسعِد ويُشقي ويُعز ويُذل ويَهدي ويُضل، وينفع ويضر، ويرفع ويخفض، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ذلكم الله رب العالمين.

إنها قبس من التاريخ القديم الزاهر وإنها تحفة السلف لخلفهم ووصية العلماء الناصحين لكل من خافوا عليه الغرور والجهل، ممن جاء بعدهم، إلى يوم الدين؛ وإنها كغيرها مما بين أيدينا من كتب العلم النافعة – بعض حجة الله على الناس، فهل من منتفع منها أو عامل بها؟!.

إن مطالعة هذه الآثار القيمة جولة في أعماق التاريخ ممتعة ومحزنة، ومحادثة ميسَّرة ومحاورَة مختصرة، مع أولئك الناس الذين ترجموا – قدر مجهودهم – وحي الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى عمل واقع وتطبيق مشهود.

إن كلام السلف في العلوم الشرعية عامة، وفي علم التزكية خاصة، لا يدرك بالفِطَن، ولا يقدَّر بثمن، ولكن هل نفطن له، أو نعرف قدره؟ إنه علم علانا بدرجات، ولكن الجاهل بيننا يظن أنه مستغن عنه ويحسب أن ذلك العلم دون علم المتأخرين بدركات، وهذا موضع التذكير بالمثل الشهير: ويل لعالم أمر من جاهله.

إن كلام السلف في الدين معانٍ عظيمة منظومة من درر متناسقة باسقة من قلوب خِيرةِ هذه الأمة وصفوتِها، وأنوارٌ صادرةٌ من تلك الصدور التي ما كان ولن يكون مثلها بعد الصدر الأول من أمة هي خير الأمم وزبدتها.

إنه نفحات من الحكمة، ونسمات من رياح الحق، نابعة من تلك القلوب الصلدة الصافية الرقيقة الجليلة العالية المطمئنة، التي ملأها حبُّ الله ففاضت به، وأماتَها خوفُه، وأحياها رجاؤُه، وامتزج فيها الإيمان والقرآن، والصبر والشكر، والمخافة والمعرفة، والرجاء والحياء، والحق والصدق، والخضوع والخشوع، والرأفة والرحمة، والعزة والذل، واليقين والتوكل، والزهد والجد، والشجاعة والقناعة، والعلم والفهم، والهدى والنور.

وذلك الكلام هو استنباط العلماء بالله عز وجل من كلامه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهو وصايا الصادقين وكلمات المحسنين (2)، وكلام المحسنين هو بلا ريب حكمة وأي حكمة، قال تعالى في حق موسى صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [القصص 14] وقال في حق يوسف صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف 22]؛ وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [آخر العنكبوت].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير