إن مكتبة الزهد والأدب توقف نماءُها منذ زمن بعيد ثم أهملت إهمالاً عجيباً وتراكم عليها من غبار الزمن وتراب النسيان ما كاد يدفنها، وهبَّ عليها من سموم عبادة الناس للدنيا ما كاد يحرقها، وسال عليها من أودية البدعة والخرافة ما كاد يغرقها؛ ولكن المكتبة الاسلامية القديمة رغم كل ما أصيبت به من نكبات ووقع عليها من جوائح لم يزل فيها بحمد الله بقية طيبة من هذين النوعين من الكتب النفيسة الجليلة؛ ولكن أين أهل هذين العلمين؟! وأين الاعتناء بما بقي من كتبهما؟! ومن يخدم تلك الكتب وينشر علمها كما ينبغي له، ومن يقربها للناس وقد شطَّ وليها وعادت عوادٍ بينهم وبينها وخطوب؟! بل من يقربهم إليها أو يدلهم عليها؟! وهم في واد وهي في واد غيره؛ فإن الأمر اليوم كما وصفه بعض المتقدمين من العلماء إذ قيل له: ما بقي من ينصح، فقال: وهل بقي من يسمع؟!
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرّق ومغرّب
فالناس أكثر الناس اليوم تحيط بهم بل بقلوبهم ظلمات الفتن، قد اجتمع عليهم فتن السراء والضراء؛ وأنهكتهم أمراض الشهوات والشبهات؛ ودوختهم وساوس شياطين الجن وزخارف شياطين الإنس؛ الزمن أسرع من أن يتفكروا في أنفسهم، والوقت أضيق من أن يتخلفوا عن أهل الدنيا في مواكبهم؛ الحاجات كثيرة والآمال عريضة والصدور ضيقة والقلوب مريضة والهموم متشعبة متفرقة؛ فالحديث اليوم عن الزهد والورع يكاد يكون حديثاً عن خيال لا حقيقة له أو عن مستحيل لا إمكان لوقوعه؛ بل إن العاقل ليأخذه أحياناً الحياء من ربه أو من نفسه أو من الناس إذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأمور، والله المستعان.
وعلى كل حال فلا بد من المحاولة وقوة الرجاء، ولا بد من وصف العلاج وإن قل الآخذون به.
ثم إن هذه الكتب غير مشتهرة الاشتهار الكافي بين طلبة العلوم الشرعية اليوم، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإنه يصد كثيراً من الناس عنها أمور، منها تطويل أكثرها بالأسانيد كما هو حال أكثر الكتب القديمة، ومنها احتواؤها على جملة من أحاديث مرفوعة كثيرة غير صحيحة، ومنها ما تضمنه بعضها من بعض المسائل التي عني بها الأدباء والأخباريون ونحوهم من الغزل والهزل وأخبار الظلمة ورؤوس المبتدعة، كما هو الحال في بعض أمهات كتب الأدب العربي، ومنها اختلاط حق الكتاب بباطل وحقيقته بمبالغة كما هو شأن كثير من كتب التصوف.
إن خدمة ما وصلنا إليه من كتب الزهد والأدب الاسلامي ونشر علمها حق واجب لا بد من أدائه وخير – إن شاء الله – كثير لا بد من المبادرة إليه.
وهذه الخدمة ليست نوعاً واحداً ولا طريقة معينة، بل هي أشكال كثيرة وأنواع متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها.
إنه لا بد من جمع وتقريب ما ورد من حكم السلف ووصاياهم في الزهد والعبادة والأدب وعرض ذلك بطرائق مختلفة في هيئتها وصورتها مشتركة في غايتها وحقيقتها؛ متطابقة في صحتها واستقامتها؛ فتقدم إلى كل فريق بالأسلوب الأفضل والترغيب الأمثل والتقريب الأكمل، ليكون لكل طالب لها أو راغب فيها أو مدعو إليها النسخة التي تناسبه والطريقة التي يفهمها؛ فليس كل الناس يفهمون (مدارج السالكين) و (مختصر منهاج القاصدين) ولا كل الناس يقنعون بالكتيبات العصرية، وإن كان لها فضل لا ينكره منصف؛ ولكنها دون ما ينبغي بكثير وكثير.
إذن لا بد – ونحن في عصر الطباعة والنشر – من خدمة كتب أسلافنا في باب التزكية والزهد والأدب الشرعي وتقديمها سهلة دسمة مقنعة ممتعة حافلة شاملة، وبطرق مناسبة، إلى كثير من المسلمين الذين لا نشك في أنهم قد طال حرمانهم منها وإن لم يشعروا به، واشتدت حاجتهم إليها وإن لم يعرفوا حقيقة ما احتاجوه.
لنقدمها إلى كل طالب علم طال من نافع العلم حرمانه.
وطالب تقوى قلَّ بين الناس أعوانه.
وإلى الشباب قبل ضيعتهم.
وآبائهم وأمهاتهم قبل ندامتهم.
وإلى كل مربٍّ مخلص قبل أن يخرج زمام الأمر من يده.
وإلى كل عابد تفطرت شفتاه في صومه وقدماه في تهجده.
وإلى كل خطيب أو واعظ يحرص على رد الناس إلى طريقة خير القرون قبل أن يشتد الأمر في صعوبته ويزداد الليل في ظلمته.
وإلى كل داعية جادٍّ يكاد قلبه يتفطر أسى لسوء ما يرى قبل أن يفوت الأوان.
وإلى كل مسلم صادق في إسلامه ثابت على دينه رغم الفتن التي تحيط به من كل مكان.
¥