أولاً: اعلم أن الله عز وجل جعل هذا الدين كُلاً لا يتجزأ: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) [الروم:31 - 32] وأمر الله بالاعتصام والتآلف، ونهى عن الفرقة والتخالف، ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران:103]؛ لأنه ليس هناك موجب للخلاف في الأصل، فيلزم المسلم الكتاب والسنة، ولا يجتهد إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون الكلام الذي يجتهد فيه صالحاً للاجتهاد وفيه مساغ للخلاف.
الشرط الثاني: أن يكون أهلاً للاجتهاد.
فأي قول خرج عن هذه الأصول، كأن يكون مستنبطاً من غير الكتاب والسنة، أو اجتهد وهو ليس بأهل، أو اجتهد في ما لا مجال للاجتهاد فيه، فإن خطأه بيّن واضح ظاهر، وعلى هذا فإنني أقول: ينبغي لطلاب العلم التناصح وتذكير بعضهم بعضاً بالتي هي أحسن، وأن يشد بعضهم من أزر بعض، وأن يكمّل بعضهم نقص بعض، ولا يعني ذلك المجاملة في الحق أو ترك بعضنا البعض على أمرٍ الخطأ فيه بيّن، أو المخالفة فيه لكتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو منهج السلف الصالح واضحة، كل ذلك لا نعنيه، إنما نعني تهيئة الجو لقبول النصيحة وإصلاح الخطأ.
وأما التجريح الذي فيه حظوظ النفس فلا يُرضي الله، وهو يهلك صاحبه -والعياذ بالله-.
الكلام في الناس ولو كان بحق، وخالط قصدك إشفاء الغيظ والحنق والحقد، خرج عن كونه عبادة؛ لأنه لا يراد به وجه الله؛ ولذلك حذر علماء الجرح والتعديل -رحمهم الله- من أن يستغل الشيطان الإنسانَ من قصد التوجيه إلى بغض الشخص، حتى كان الجرح والتعديل من أصعب العلوم، لا من جهة تحصيله فقط، بل من جهة كبح النفس ومجاهدتها حتى يصبح جرحه وتعديله خالصاً لوجه الله.
ومن لوازم الإخلاص في الجرح:
أولاً: أن يكون الباعث عليه إقامة الحجة على أخيك، والغيرة على الكتاب والسنّة، والحرص على الخير للناس، فهذه الركيزة الأولى.
ثانياً: من لوازم هذا الإخلاص أن تأتي لأخيك وتستره، والتشهير به فيه معنى لحظوظ النفس وحب الانتصار، وهو يضاد الإخلاص، بل والشرع، فإن الزاني يطالب المسلم بستره إذا زنى، وأجمع العلماء عليه، كما في حديث هزّال ([111]) المعروف، فهذا من حق العامة من المسلمين، فكيف بطالب علم اجتهد أو تأول فأخطأ، من باب أولى وأحرى، فإن وجدتَ من نفسك أنها قابلة، لأن تنصحه في السر فاعلم أنك تريد وجه الله، وإن وجدت أنها تأمرك أن تسارع بكشفه، وتضيق حينما تهمُّ بالذهاب إليه، فاعلم أن الشيطان قد دخل إلى شعبة من شُعَب قلبك.
وما المانع أن تدخل بيته محتسباً الخطوات عند الله، تشتري بها رحمات الله، ويعلم الله من قلبك أنك ما دخلت بيته إلا وأنت تريد ما عند الله جل وعلا، وتأتي إليه بكل نصح وتجرد، فإذا وجدته بين طلابه جلست كأنك واحد منهم -تهيئ الأسباب- حتى يفرغ. ثم تقوم معه إلى خلوته، وتقدم له ما عندك، أما أن تأتيه بين طلابه أو تتلقف زيد أو عبيد من طلابه، وتقول له: الشيخ فيه كذا وكذا، هذا أمر من الصعوبة بمكان.
ثالثاً: إذا جئته تتخير الحجج المناسبة والأسلوب المؤثر، وتظهر الشفقة عليه كأنه غريق تريد إنقاذه، ثم إن وجدت في نفسك أنها تشتهي إهانته وإفحامه وتسفيه رأيه ومنهجه، فاعلم أنك على جرف هار، وأنك -ولو كنت صاحب حق بهذا الشعور والميل، خرجت عن كونك ترجو ما عند الله إلى ما ترجوه من حظوظ نفسك.
وقف بعض العلماء على إمام من أئمة السلف في الجرح، وقال له: تكلمتَ في أقوام لعلهم حطّوا رحالهم في الجنة منذ مائتي عام، فجلس العالم يبكي تأثراً حتى غشي عليه في المجلس، فليس مراد المذكّر إلا حثه على الاجتهاد في أن تكون نيته لله جل وعلا، وليس المراد أنه لا حاجة للجرح والتعديل، بل قد يكون واجباً كما هو معلوم.
¥