وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في حاطب رضي الله عنه حين كتب الكتاب للكفار، يكشف سراً من أسرار المسلمين، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم) ([130]).
هذا يدل على أن العبد الصالح قد يكون بينه وبين الله حسنات تحرق خطاياه وزلَلَه.
تريد لهذا العالم الذي أفنى ليله ونهاره في الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل أن تفني حسناتك أمامه؟. تريد أن الله لا يغفر إساءته، وله من الحسنات ونشر العلم والخير ما لا يُحصى، فالرجاء في الله عظيم ([131]).
والله أسال: أن يرزقنا عفة الظاهر والباطن، وهذه –والله- وصية لكم أجمعين، لا أقصد بها شخصاً معيناً، ولا طائفة معينة، ولكن أريد أن يترسمها كل مؤمن فضلاً عن طالب العلم.
وأما الأخ الذي تُكُلّمَ فيه فأوصيه بما يأتي:
أولاً: أن تتعزى وتتسلى بمن مضوا قبل من السلف والأخيار، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والعلماء الأبرار، اتهم في عرضه، واتهم في فكره ومنهجه، فقيل فيه: أفّاك؛ حاشاه، وقيل: ساحر، وقيل: كذّاب، ومات وهو سيد الأولين والآخرين؛ لأن الله تعالى جعل الأمور بعواقبها، وهي سنة ماضية في كل من تمسك بهذا الدين: أن يُبتلى على قدر تمسكه، كما اشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، ثم الأمثل) ([132])، فإن كنت أمثل صُبَ عليك من البلاء ما لا يعلمه إلا الله، ولْتعلم أن الله سيضعك -بالصبر على هذا البلاء- في مرتبة أحبابه وأوليائه ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24]، أن تصبر وتحتسب عند الله عز وجل مما قيل فيك، فإن الله تبارك وتعالى قد تكفل بعباده وبيده أزمّة الأمور، فاصبر والله معك، قال صلى الله عليه وسلم: (من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر) ([133])، والله تعالى يقول: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [البقرة:153]، فإذا أراد الله رفعك وكره ذلك الخلق كلهم، فله الأمر من قبل ومن بعد ([134]).
ولا تعبأ بحسدهم وبغضهم لك، ولمّا ابتلي الحافظ عبد الغني رحمه الله في محنته ([135])، قال فيه القائل:
إِنْ يَحسِدوكَ فلا تعبأ بقائلهم هم الغُثاءُ وأنت السيد البطلُ
والناس لا نجاة منها، فلو صاحبت أفضل الناس لابد من كلام الناس فيك.
تالله لو صحب المرء جبريلا
لا بدّ من قيلٍ وقيلا
قد قيلَ في اللهِ أقوالٌ مسمّاة
تتلى إذا رتّل القرآن ترتيلا
قد قيل إن له صاحبة
تعالى الله عما قيلا
فالله لم يسلم من كلام خلقه: من أن له صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
وهذه الفتنة لو وجدت عقولاً وقلوباً تتقي الله، لما راجت واستحكمت، وقد وقعت فتن في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم من ذلك، في الدماء، لكنها وجدت عقولاً راجحة ضيقت نطاقها، وعرفت أهل الشر والغوى فيها، ونحن لا نبرّئ ساحات أهل العلم من وجود أناس لا خير فيهم، دخلاء على الصالحين، أو يتمسحون بالصلاح وهم منهم براء، وأشهد الله أني بريء ممن برئ من عقيدة السلف، وأبرأ إلى الله ممن يتكلم ويطعن في الصالحين والأخيار.
ثانياً: لا تناقش الجهال حتى لا تهلكهم، ربما أثناء نقاشه يرد آية أو حديثاً بمحض هواه وفهمه فيهلِك، وتضيّع وقتك.
قال الإمام الشافعي: جادلني عالم فجدلته -أي غَلَبْتُه-، وجادلني جاهلٌ فغلبني، لأن الجاهل لا تدري من أين تأتيه، إذا جئته من يمين، يأتيك من شمال، وهكذا، ليست عنده ضوابط ولا قواعد ولا اصول يحتكم إليها، فلا تضيّع وقتك معه، قل له: ارجع إلى العلماء، حتى لا تَفْسُد القلوب بسبب هذه المناقشات التي لا تجدي؛ لأن هذا النوع من النقاش يفسدها ويوقع بينها الخلاف، والله قرن الفشل بالخلاف ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) [الأنفال:46].
ثالثاً: إذا كان الذي أمامك طالب علم، قد حصَّل علم آلة الخلاف والنقاش والاجتهاد، وتستفيد من مناقشته ومناظرته، فخذ بآداب البحث والمناظرة، وهي معروفة ومشهورة، ومنها:
¥