تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الطريق إلى الإسلام]

ـ[فاكهة المجلس]ــــــــ[20 - 08 - 2004, 05:26 ص]ـ

كنا نسير ونسير: رجلين على هجينين، الشمس تضطرم فوق رأسينا، وكل شيء متألق ومترجرج وضياء سابح، رواب وكثبان حمراء وبرتقالية اللون، رواب وراء رواب وكثبان وراء كثبان، وحدة وصمت محرق ورجلان على جينين في مشيتهما تلك المتأرجحة التي تجلب لك النعاس بحيث تنسى النهار والشمس والريح الحارة، والطريق الطويل إن باقات العشب الأصفر لتنمو غير مزدحمة على قمم الكثبان، وهنا وهنالك شجيرات من العشب الذي يدعونه الحمض، تتلوى فوق الرمال كالأفاعي الضخمة، وأن مشاعرك لتستسلم إلى النعاس ذلك بأنك إنما تهتز في الشداد اهتزازاً، ولاتكاد تميز أي شيء في ما وراء قرقشة الرمال تحت أخفاف المطيتين واحتكاك غزالة الشداد بركبتك إنن وجهك ملفوف بكوفيتك لحمايته من الشمس والريح وإنك لتشعر كأنما تحمل وحدتك كما تحمل مادة محسوسو عبرها، عبرها تمام إلى آبار تيماء السوداء التي تعطي الماء إلى ظمآنين ..

(( .. رأساً عبر النفوذ إلى بماء .... )) لقد سمعت صوتاً لم أعرف ما إذا كان هاتفاً في الحلم أوصوتاً صادراً عن رفيقي أجاب رفيقي ((لقد كنت أقول أنه لايخاطر كثيرون بعبور النفوذ لا لشيء سوى رؤية آبار تيماء .... )).

لقد كنا، زيد وأنا، عائدين من قصر عثيمين على الحدود النجدية العراقية إلى حيث كنت قد قصدت بناء ًعلى طلب الملك ابن سعود فبعد أن انجزت مهمتي، وجدت أن لدي متسعاً من الوقت، قررت أن أزور واحة تيماء النائية الضاربة في القدم، على نحو مئتي ميل إلى الجنوب الغربي: تيماء التي ورد ذكرها في العهد القديم، والتي قال عنها أشعياً: ((لقد كان سكان أرض تيماء يجلبون الماء إلى كل من به ظمأ)).

إن غزارة المياه في تيماء، وآبارها العظيمة التي لا مثيل لها في أيام الجزيرة العربية كلها، جعلتها في أيام الجاهلية مركزاً عظيماً لتجارة القوافل ومقراً للثقافة العربية القديمة، لقد طالما رغبت في رؤيتها، ولهذا تجاهلنا طرف القوافل المتلوية وضربنا رأساً من قصر عثيمين في قلب صحراء النفود الكبرى، تلك الصرحاء من الرمال المالية إلى احمرة، الباسطة نفسها بقوى وجبروت بين نجدي وبادية الشام، في هذا الجزء من ذل القفر العظيم لاتقع العين على درب أو طريق، فالريح قد أخذت على نفسها أن لاتترك أيما أثر في الرمال الناعمة اللدنة وأن لاتدع أيما معلم ينتصب طويلاً لهداية المرتحلين عبر الصحراء، وتحت ضرباتها تبدل الكثبان من معالمها، وتغير من أشكالها ببطء كبير لايتيح للعين أن تلحظ كيف تنخفض التلال فتصبح أودية وترتفع من جدي تلالاً منقطعة بالعشب اليابس الميت الذي لايكاد يسمع خفيفه والمر المذاق كالرماد، حتى في فم الجمل.

وبالرغم من أنني عبرت هذه الصحراء مرات كثيرة وفي وجهات عديدة، فست أثق بقدرتي على أن أضل طريقي فيها إذا ما حاولت عبورها دون معونة الدليل ولهذا وجدتني مسروراً لوجود زيد معي، هذه البلاد هي موطنه وهي ينتمى إلى قبيلة شمر التي تعيش على الأهداف في جنوبي صحراء النفود وشرقيها، وعندما تهطل أمطار الشتاء الغزيرة وتحول الكثبان الرملية فجأة إلى مروج خصيبة، يرعون إبلهم في وسطها بضعة أشهر من السنة، إن أمزجة الصحراء هي في دم زيد، وإن قلبه ليخفق بها.

ولعل زيداً أظرف رجل رأيته في حياتي: عريضة الجبهة، دقيق الجسم، معتدل القامة، ممتليء قوة ونشاطاً، وعلى ملامح وجهه الصبوح المعروق يتبدى التحفز المعهود في عرب الصحراء – مزيج من الهيبة والاعتداد والعذوبة، في وقت معاً، إنه تركيب متناسق من البداوة النقية والحضارة النجدية، احتفظ من البدو بسلامة الفطرة دون تقلباتها العاطفية، ومن حياة المدينة بالمعرفة العملية دون استسلام إلى مغرياتها، وزيد مثل أنا يجب المغامرات دون أن يسعى إليها ومنذ فجر شبابه امتلأت حياته بالحوادث المثيرة، فقد التحق في صباه بفرقة الهجانة غير النظامية التي جندتها الحكومة التركية لحملتها في شبه جزيرة سيناء إبان الحرب العظمى، ثم دافع مع قبيلته شمر، عن وطنه ضد ابن سعود ومن ثم اصبح مهرباً للسلاح في الخليج الفارسي، لينقلب من بعد إلى مغرم مدنف بنساء كثيرات في أقسام كثيرة من العالم العربي – وكلهن، من غير شك زوجت شرعاً واحدة بعد أخرى،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير