تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وطلقن منه شرعاً كذلك ثم اتخذ تجارة الخيل مهنة له في مصر، وعمل جندياً مرتزقاً في العراق وأخيراً أصبح رفيقاً لي في تجوالي في الجزيرة العربية طيلة خمس سنوات على وجه التقريب.

ك - ا، في أواخر صيف عام 1932 م ذاك، نركب معاً كما فعلنا كثيرًا في الماضي يلفنا الطريق الموحش بين الروابي، متوقفين عند هذه أو تلك من الآبار المتباعدة، وآخذين قسطاً من الراحة ليلاً تحت النجوم وتتوالى أصوات أخفاف الذلولين فوق الرمال الحارة، بينما يرتفع صوت زيد الأجش، أحياناً متناغماً مع وطئهما ويجن الليل فنتوقف على عن المسير ونحتسي القهوة ونطبخ الأرز وأحياناً بعض مانصطاد من الحيوان وكان الهواء النعام البارد يلامس أجسامنا ونحن مضطجعون على الرمال، وكان بزوغ الشمس فوق الكثبان أحمر عنيفاً كالألعاب النارية، وأحياناً، كما هو الحال اليوم، تستيقظ معجزة الحياة في نبتة ارتوت مصادفة.

لقد توقفنا لأداء فريضة الظهر فبينما كنت أغسل يدي ووجهي وقدمي من قربه، سقطت بضع قطرات من الماء فوق خصلة من العشب اليابس عند قدمي لقد كانت هذه الخصلة من العشب صغيرة بائسة صفراء ذابلة لاحياة فيها تحت أشعة الشمس المحرقة ولكن ما إن سال الماء عليها حتى سرت قشعريرة في أوراقها المتغضة، ورأيت بأم عيني كيف أخذت هذه الأوراق، رويداً رويداً، ترتجف وتتفتح، وكيف أنها بعد أن سالت عليها بضع قطرات أخر تحركت وتجعدت، ثم انتصبت، قليلاً قليلاً، مترددة مرتعشة وحبست أنفاسي بينما أخذت أسيل قطرات أخرى من الماء فوق خصلة العشب وكان أن بدأت تتحرك بسرعة أكبر وقوة أثر وكأنما قوة خفية تدفعها لتخرجها من حلم مماتها لقد شرعت أوراقها – ويا له من مشهد – تتقلص وتتمدد وهكذا عادت الحياة منتصرة إلى ماكن منذ لحظة شبيها بالأموات عادت إليها عياناً، وبشغف وانفعال، قهارة مغلقاً فهم جلالها وعظمتها على العقول.

الحياة بجلالها وعظمتها .. إنك لتحسها دائمًا في الصحراء وإذ كان من الصعب جدًا الاحتفاظ بها هناك فهي بمثابة الهبة أبداً، عزيزة دائماً كالكنز الثمين، تفاجئك وتأخذك على حين غرة ذلك بأن الصحراء لايمكن إلا أن تحيرك وتدهشك وتقع عيناك فيها على جديد ولو كنت قد خبرتها سنين طويلة ففي بعض الأحايين، إذ يخيل إليك أن باستطاعتك أن تتبينها بكل ما فيها من صرامة وصلابة وفراغ، تستيقظ فجأة من حلمها، وترسل أنفاسها – ويبدو لك العشب اللدن الأخضر في حيثما كان بالأمس رمالاً وشظايا حصباء وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى، فإذا بسرب من الطيور الصغيرة ترفرف بأجنحتها في الهواء – من أي، وإلى أين، هذه المخلوقات الدقيقة الجسم، الطويلة الجناح الزمردية – الخضراء اللون؟ وهي ترسل أنفاسها كرة أخرى كذلك، فإذا بأرجال من الجراد تصعد تارة وتندفع تارة أخرى: كالحة شهباء لانهاية لها كحشد من المحاربين الجياع ...

الحياة بجلالها وعظمتها: جلال الاتساع والامتداد، وعظمة المفاجأة هنا، في هذه الصحراء، يفوح شذى بلاد العرب وأريحها، وتظهر روعة التبدل.

وإن عينيك لتقعان أحياناً على أرض سواء مسننة غير مستوية، وأحياناً أخرى على رواب لانهاية لها ولا آخر، وقد يطالعك واد من تلال صخرية، تغطيه عليقات يقفز منها أرنب مذعور معترضاً طريقك، كما تطالعك أحيانا رمال مسترخية سائبة تبدو فوقها آثار الغزلان أو أحجار سوداء طبخ عليها مرتحلون قدامى منسيون طعامهم في أيام غابرة منسية، وقد تصادف أحياناً أخرى قرية تحت أشجار النخيل، وتسمع موسيقى الدواليب الخشبية فوق الآبار تنشد لك دونما انقطاع، أو تشاهد بئراً في قلب واد يلغط حولها الرعاة البدو ليسقوا ماشيتهم وجمالهم العطشى، وهم يغنون معاً بينما يسحبون المياه من قعر البئر في دلاء جلدية ويفرغونها بقوى في أجران جلدية كذلك، فتبتهج لمرآها الحيوانات المهتاجة، ثم تطالعك الوحدة من جديد في سهول فسيحة تحرقها شمس ملتهبة دونما رحمة أو شفقة، أو رقعات من العشب اليابس الأصفر والغياض المورقة التي تدب على الأرض بأغصانها الملتوية مراعي خصبة لنجائبك، أو شجرة طلح متوحدة تبسط أغصانها تحت السماء ذات اللون الفولاذي الأزرق، وقد ترى بين الركام والأحجار عينين تنطقان ذات اليمين وذات الشمال ثم تختفيان كما يختفي الشبح، فتعرف أنها العظاية ذات الجلد الذهبي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير