، والتي يقولون إنها لاتشرب الماء أبدًا، ثم تمشى لتقع عيناك على بيوت شعر سوداء منصوبة في غور من الأغوار، وقطيع من الإبل يسوقه الرعاة وهم ممتطون بعضاً منه: حتى إذا ما دعوا إبلهم ابتلع السكون أصواتهم ولم يرجع لها أيما صدى.
وقد ترى أحياناً براقة بعيدة عن الأفق فتسائل نفسك: أهذه الغيوم؟ إنها تسبح على علو منخفض، وتبدل كثيراً من ألوانها وأوضاعها، فهي تارة كالجبال الشهباء الداكنة – ولكنها في الجو، وفوق الأفق، وهي طوراً تشبه، ويا لروعة المشهد، غياضاً ظليلة من أشجار الصنوبر – ولكن في الهواء. حتى إذا ما أمعنت في انخفاضها وانقلبت إلى بحيرات وأنهار جارية تعكس مياهها الجذابة الشهية الجبال والأشجار عرفتها على حقيقتها: السراب الذي طالما قد الرحل إلى الأمل الكاذب فالهلاك عندئذ تمتد يد بطريقة غرزية إلى القربة المدلاة من الشداد ...
وتمر بك ليال مليئة بضروب أخرى من الأخطار، عندما تكون القبائل في فتنة حربية، ويتجنب المسافر إشعال النار ليلاً لئلا يرى من بعيد، يجلس مستيقظاً الساعات الطوال، واضعاً بندقيته بين ركبتيه، وفي أيام السلم، بعد أن تسير متوحداً أياماً متطاولة، إذا بك تلقى قافلة وتصغى في المساء حول النار إلى حديث الرجال الوقورين الذين حرقت وجوهم الشمس: إنهم يتحدثون عن كبائر الحياة وصغائرها، عن الموت والحياة، عن الجوع والشبع،عن الفخر والحب والكراهية، عن شهوة الجسد وفتورها، عن الحرب، عن غياض النخيل في قراهم البعيدة – ولكنك لاتسمع مطلقاً أيما ثرثرة فارغة، لأن المرء لايستطيع أن يثرثر في الصحراء ...
وإن لتحسن نداء الحياة في أيم العطش، عندما يلتصق لسانك بسقف حلقك كقطعة من الحطب اليابس، ولاتظهر في الأفق أية علامة من علامات الخلاص، بل ريح سموم عاتية، ورمال مدمومة في الجو ومع ذلك ففي أيام أخرى عندما تحل ضيفاً على البدو في مخيمهم، ويأتيك القوم بأكواب مليئة باللبن – لبن النياق السمينة في مطلع الربيع – عندما تنقلب السهول الفسيحة والكثبان الخضراء بلون الجائن وضروع النياق ثقيلة مدورة، تستطيع أن تسمع من أحدى زوايا البيت ضحكات النساء وهن يشوين خروفاً على شرفك فوق نار مكشوفة.
وكقطعة من المعدن حمراء، تختفي الشمس وراء التلال، وتبدو التلال، وتبدو السماء ذات النجم أرفع منها في أي مكان آخر في الأرض وإنك لتنام في الليل نوماً عميقاً لاتتخلله الأحلام، لتستيقظ في الصباح على فجر بارد رطب أما ليالي الشتاء فباردة.
فالريح القارصة تهب على النار التي تزدحم حولها أنت ورفاقك طلباً للدفء، وأما أيام الصيف فلاذعة عندما تسير وتسير على ذلولك ساعات وساعات لانهاية لها، لافاً وجهك بكوفيك حمايته من الريح الكاوية ....
وانقضى الأصيل شيئاً فشيئاً، بينما أكملنا مسيرنا على الروابي والكثبان، يلفنا الهدوء والحدة.
بيد أن الوحدة ما لبثت أن تصرمت بعد قليل، عندما مررنا في طريقنا بركب من البدو – أربعة أو خمسة وامرأتان فوق هجانهم – ومعهم جمل يحمل بيت شعر مطوياً وعدداً من القدور وسائر الأدوات التي تتطلبها حياة البداوة، يعلوها جميعاً طفلان صغيران. وإذا اقترب الركب منا جذبوا أعنة ركابهم وحيونا قائلين:
السلام عليكم .....
فأجبنا:
- ((وعليكم السلام ورحمة الله)).
- ((إلى أين، يأهل الطريق؟)).
- ((إلى تيماء، إن شاء الله)).
- ((ومن أين؟)).
- ((من قصر عثيمين، أيها الأخوان)).
ساد الصمت من جديد. وتفحصت القوم فوجدت بينهم رجلاً كهلاً ناحل الجسم دقيق الوجه أسود اللحية مستدقها، اتضح لي أنه شيخهم. يتبع