"نهشت صداقات وعض إخاء" تقابل في درجتي الأذى وتضاد في فاعليه, فالصداقات بعيدة وكان فعلها شديدا والإخاء قريب وكان فعله ألطف من الصداقات. فالصديق أبعد من الأخ عادة في درجة القرب النفسي أو درجة احتمال الغدر, ولذلك كان فعل الصديق أعظم من فعل الأخ, وفعل الأول نهش أي افتراس اللحم بوحشية وفعل الثاني عض أي قضم بالأسنان في اللحم.
"اختال غدر واستكان وفاء" نهضة الغدر على حساب الوفاء الذي استكان لضعف فيه فكان الخيلاء خيلاء الغادر وكانت الاستكانة استكانة الوفي, فلم يكن ذلك عادلا ولا هذا ناصرا.
بيت من قبيل الصدمات المعنوية التي يرتج لها كيان القارئ لما فيه من القوة والدخول في موضوعه دون مقدمات.
يا أيُّها الأعداءُ شُدّوا سوءكُمْ
لأنا الذي يَشْتَدُّ حينَ يُساءُ
إنّي سَفَهْتُ عِداءكمْ مُتَضاحِكًا
لَمْ أُلْق ِ بالا ً أنَّنا أعْداءُ
كان السوء الذي ذكره الشاعر في البيت الأول لا يتأتى إلا من صديق انقلب عدوا أو أخ جائر. فيجيب عليه الشاعر بالتحدي, فيقول لهم زيدوا فيما أنتم عليه فما تزيدني زيادتكم إلا قوة, فهو الذي يقوى من استقواء الآخر عليه.
ثم يعقب بقوله أنه لا يأبه بعدائهم, فهم كأنهم لم يكونوا, غير أن لفظة "متضاحكا" جاءت عكس السياق, فالتضاحك هو افتعال الضحك, وهو أمر عكس المكنون, ربما تضاحك المرارة التي تنزل بالحلق والقلب, فالعداء المعلن سفاهة يرد عليها الشاعر
بالتضاحك والتجاهل لأنه أمر غير ذي بال.
منْ ذا ألومُ و صاحِبي في جُحركُمْ
يَطْهو الأذى، لا يَعْتريهِ حَياءُ
بيت جميل جدا, فمن ذا يلام إذا كان الصاحب انضم إلى جحر الأعداء, وكلمة جحر هنا للتصغير من شأنهم وتحقيرهم, يطهو ويطهون الأذية للشاعر دونما حياء, فهذا الصاحب, فكيف بالأعداء؟
هِيَ صُحْبَة ُ اللُّؤَماءِ إنْ أتْخَمْتَهُمْ
خَيْرًا تَجاحَدَ خَيْرَكَ اللُّؤماءُ
المعنى المشهور "وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا", وربما أضاف إليه الشاعر مرارة معنوية يحسها القارئ, فاللؤماء "أصحاب" يلوم الشاعر نفسه أن اتخذهم كذلك, وهؤلاء الأصحاب مهما تعطهم من خير فتتخمهم به, وهو عطاء فائض, فهم جاحدوه.
وربما تكرار لفظة "اللؤماء" أضعفت من بنية البيت قليلا.
صُبّوا على جار ٍ بذاءَة َ جيرَةٍ
أخلاقُكُمْ عَرَبِيَّة ٌ شَمّاءُ
هذا البيت جعلني أدور حوله طويلا, مستكشفا علاقة الصدر بالعجز, أهي السخرية, أم المرارة, أم التقريرية. فالشاعر يقول للأعداء بأن يصبوا بذاءتهم على جارهم, لأن أخلاقهم عربية شماء, وإذا فهمنا من ذلك السخرية, فهو سخرية مريرة لاذعة, كأنه يقول لهم, تدّعون أنكم عرب وتتخلقون بأخلاقهم ثم تفعلون ما تفعلون بي, فلستم على ما تدعون وأخلاق العرب ليست فيكم. وإذا فهمنا التقريرية فإن الشاعر ربما يرى أن خلق الأذية خلق عربي لما فيه من غدر الجار وأذيته, وهذا حال العرب اليوم, انحدرت بهم الأخلاق وارتفعت بهم الغدر والخيانة شمم السوء إلا من رحم ربك.
لَنْ تُطْفِئوا بالشائِعاتِ وَضاءتي
إنَّ الخلوق َ على المَدى وَضّاءُ
يواصل الشاعر تحديه لأعدائهم, فشائعاتهم لن تطفئ وضاءته لأنه تستمد ضياءها من أخلاقه الحميدة, فالأخلاق هي ما هو عليه, لا ما هم عليه, وهي الفيصل بينهما.
طيروا هداهِدَ فِتْنََة ٍ ووشايَة ٍ
لَيْسَت ْ تطيرُ لهُدهُد ٍ عَنْقاءُ
هذا البيت غريب أرى أن الشاعر حاول التجديد فيه ولكنه حسب رأيي المتواضع ربما جانب ذلك, فللهدهد في حضارتنا العربية الإسلامية مفهوم مرتبط بالخير لا بالشر, من ذلك هدهد سليمان عليه السلام, إذا أخبر نبي الله بشرك المشركين ولم يش بهم بمعنى الوشاية, فهو سعى في خيرهم, لا في شرهم, ولو وقع الشر لكانوا هم من جنوا على أنفسهم وليس الهدهد عليهم, وكان يدل نبي الله على الماء.
ثم أن العنقاء طائر خرافي يعود للحياة بعد موته, وهو أحد المستحيلات الثلاثة التي اعتقدها العرب, وربما خرافيته جعلت منه طائرا متميزا في الميثولوجيا العربية والإنسانية. ويعبر الشاعر عن تمايز العنقاء عن الهدهد, فهي أكبر منه في الفكر البشري, تنهض دائما بعد السقوط وتعود من بعد الموت, وهو يأتي بالأخبار "أخبار الفتنة والوشاية", ولكني أرى هذا التمايز فاقدا لعنصر الواقعية, فتمييز عنقاء خيالية ميثولوجية عن هدهد موجود أمر فيه نظر. وربما أكون مخطئا.
وتَخَبَّأوا دَسًّا يَكيدُ مَكانَتي
سَأُطِلُّ لا كِبْرٌ ولا إغْضاءُ
يَكْسو أناشيدي عَراءُ هُتافِكُمْ
لا الشِّعْرُ يَعْرفُني ولا الشُّعَراءُ
جاء "دسا" بدلا من المفعول المطلق من "تخبأ", للتعبير عما يحيكه الأعداء في الخفاء من وراء الأسترة كما يقال, فهم يكيدون كيدا للنيل من مكانة الشاعر, بيد أنه سيطل عليهم لا متكبرا ولا متهاونا.
ثم إذا أطل الشاعر فبأناشيده التي ستكتسي من عراء هتافات الأعداء وهي المقابلة من التكسّي بعراء الغير, وهو معنى فضح الأعداء وما يكيدون وما يصطرخون ويهتفون, ومثل هذا غير معروف عن الشاعر, أي أنه ليس من موضوعات شعره فضح أقوام وتعرضهم لهم في شعره.
يا أكْبَرَ الأدَباءِ صُكَّ ولادتي
هَيْهاتَ يولَدُ دونَكَ الأدَباءُ
هذا البيت غريب فيه معنيات متناقضان, فحبذا لو شرحته لي أستاذي الكريم.
محاولتي: يا أكبر الأدباء سجل عندك ولادة أديب هو أنا, فأنت لا تسمح للأدباء أن يولدوا ويكونوا لك ندّا, فها قد جاءك الند.
لمْ تَهْوَ أشعاري زَبَرْجَدَ شُهرَة ٍ
بَيْني وبَيْنَ زبَرْجَد ٍ بَغْضاءُ
وهذا الند لا يهوى الشهرة, لأنه منطو على نفسه رغم ندّيّته لأكبر الشعراء, ولأن شعره للشعر لا للشهرة.
دائي يَعودُ ولا يَعودُ شِفاؤُهُ
داءُ المَواقَفِ لَيْسَ مِنْهُ شِفاءُ
وهذه الحلقة من المواقف التي تشكف عورات الأصحاب وحقائقهم داء يعود ما دام ثمة أصحاب, وفي كل مرة يصيب الداء الشاعر فلا يشفى منه لأنه ليس له شفاء.
اعذرني أستاذنا على الخطإ ولا تطل غيبتك عنا.
¥