تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

فلقد طربت أيما طرب، وأنا أطالع رائعتك هذه؛ لا سيما وقد فتحتَ من خلالها بابا جديدا في منتدانا الرائع هذا؛ ألا وهو باب المعارضات؛ على أنك قد تجشمتَ فيها عناء معارضة مالئ الدنيا وشاغل الناس، وما أراه إلا قد أشغلك ليالي وأياما! أوليس هو القائل:

أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم

قال هذا في شأن من يتحرون ما جاء به من معاني؛ فكيف بمن قصد إلى معارضته ومماتنته! على أني التمس لك في ذلك عذرا أكرم به من عذر، وما أجدره بعد ذلك أن يصرف عنك مقال الملام، ويخرجك من حيز الاتهام؛ ألا وهو حبك لأبي الطيب المتنبي، وكلنا ذاك المحب.

هذا وقد سرني كثيرا أن تكون هذه الأبيات هي باكورة نظمك على بحر الطويل؛ هذا البحر الأصيل، الذي يسميه أخوك أبو يحيى: " ملك البحور "؛ وهو يأتي على ثلاث صور؛ كل منها له نكهته الخاصة، وقد قصدت منها إلى الصورة الأولى (الكلاسيكية):

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن & فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

وقد أبحرت فيها بكل اقتدار لولا بعض هنات مما استدركه الإخوة الكرام بارك الله فيهم؛ وذلك هو حذف السابع الساكن في (مفاعيلن) خاصة، وهو ما يسمى في عرف العروضيين بـ (الكف).

ونصيحتى لك أخي أبا سهيل إذا أردت أن يطرد لك الإيقاع في بحر الطويل أن تفر من زحاف الكف فرارك من الأسد؛ لأنه ـ وإن كان جائزا ـ إلا أنه غاية في القبح. وقد قال الشاعر يعاتب خليله فتملح في ذلك ما شاء الله له أن يتملح:

كففتَ عن الوصال طويلَ شوقي ... إليك، وأنت للروح الخليلُ

وكفك للطويل فدتك نفسي ... قبيح ليس يرضاه الخليلُ

والشاهد: أن (الكف) في الطويل غير مرضي في مذهب الخليل. فتنبه!

أعود إلى أبياتك العذبة التي عارضت فيها مقدمة قصيدة المتنبي دون سائرها؛ فجاءت منسوبة إلى نسيبها، مشمولة بنجوى حبيب وحبيبها؛ فأبدأ بالمطلع الذي هو كطرة القصيد؛ عليه يعتمد وبه يقوم. قلت بارك الله فيك:

أُغَالِبُ قَلْبِي فِي الغَرَامِ فَأُغْلَبُ = وَلَيْسَ عَجِيبًا أَنْ تَرَى الحُبَّ يَغْلِبُ

وغرضك من ذلك معارضة مطلع أبي الطيب:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ** وأعجب من ذا الوصل والوصل أعجب

ولست أحاسبك هنا على مقدار فيض العاطفة التي جاش بها مطلع المتنبي، دون بيتك؛ فإن ذلك مما لا يسعني لومك فيه؛ فإنما أنت معارض لا منشئ؛ والفرق بين المقامين ظاهر.

ولكني أعاتبك على إغفالك مقام الأسلوب الذي من أجله كان ترقي بيت أبي الطيب في مضمار البلاغة، واعتلائه هرم الفصاحة؛ ألا وهو مجيئه بلفظتي الشوق والوصل مكررتين، لا بطريق التكرار. وهذا مسلك لا يسلكه إلا كبار البلغاء وعلية الأدباء.

فلو كنتَ نحوت نحو هذا الأسلوب وغيرت الكلم بقدر استطاعتك لكان أفضل؛ وأقرب إلى المتابعة.

ثم إني أعود فأقول: إنك معذور في كل هذا؛ لأن هذا المطلع من محاسن مطالع أبي الطيب المعدودة التي تحسر عنها العقول، وتلغب الأذهان.

عود إلى بقية الأبيات:

زَجَرْتُ فُؤَادِي مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ = فَوَافَيْتُ زَجْرِيَ لِلصَّبَابَةِ يُلْهِبُ

الشطر الأول حسن لا بأس به.

في الشطر الثاني: أرى أن لفظة "وافيت" لم تقع الموقع المراد؛ فلعل لفظة أخرى أن تقوم مقامها؛ نحو: " فألفيت ". ولعل السبب في ذلك ـ والله أعلم ـ أن الأصل في الفعل (وافى) أنه ينصب مفعولا واحدا، وربما نصب معموله على الحالية؛ فإن كنتَ جعلتَ لفظة (زجري) مفعولا أول؛ لزم من ذلك أن تكون جملة (يلهب) مفعولا ثانيا. وذلك في نظري ضعف في الصناعة؛ لما فيه من اضطرار إلى تأويل معنى الفعل. فإن أبقيته على أصله، وأعربت جملة " يلهب" حالا، اضطرب معنى البيت ولم يتحقق المراد منه؛ لأنه سيكون على تأويل: فوافيت صبري حال كونه ملهبا للصبابة!

فَقُلْتُ: هِيَ الأَيَّامُ تُنْسِيكَ حُبَّهَا = وَعَهْدِي بِهَا الأَيَّامُ بِالحُبِّ تَذْهَبُ

في الشطر الأول: التبس عود الضمير في "حبها"

في الشطر الثاني بعض تعقيد أخل بشرط الفصاحة؛ والترتيب الصحيح: وعهدي بالأيام تذهب بالحب

فَهَا هِيَ أَيَّامِي: نَهَارِي تَذَكُّرٌ = وَبِاللَيلِ أَطْيَافٌ تَزُورُ فَأَطْرَبُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير