[من سلسلة (خيبات أمة)]
ـ[عماد كتوت]ــــــــ[11 - 10 - 2010, 01:29 م]ـ
الخيبة الثامنة
لاحظ المجنون الأحمق أن هناك شبحا يطارده منذ مدة، كان يشعر بالخوف أحيانا، وأحيانا كان يقنع نفسه بأنّ الأمر مجرد تخييلات لا أساس لها، وبناء عليه كان يتظاهر بأنه يمارس حياته بشكل طبيعي، يجلس في مكانه المعتاد المدة المعتادة كل يوم، يطوف أرجاء السوق شبرًا شبرًا، يقدّم استعراضا لهذا، ويحمل متاعًا لذاك، يسلّي الجالسين في المقهى، إلى أن يداهمه الليل فينصرف إلى مأواه حاملا ما تيسر له من طعام ونقود كان أهل الحي يجودون بها عليه.
في أحد الأيام سأل أحد السكان الجدد ساكناً قديما أثناء جلوسهما في المقهى عن سرّ تسمية ذلك الرجل بالمجنون الأحمق، فالتسمية غريبة، لأن الجنون أعم من الحمق، فأجابه:
- أطلقنا عليه هذا الاسم لأنه يدّعي الجنون كي يتصدّق الناس عليه، ومن يدعي الجنون لهذا السبب لا شك أنه أحمق، ونحن نتصدق عليه رغم ذلك ابتغاءً للأجر والثواب، فهو يعيش وحيدًا، ولا أهل له.
من المفارقات العجيبة التي كانت تلفت الانتباه، الصداقة التي تربط بين المجنون وفهمان أفندي الذي كان يعمل مذيعا في التلفزيون (لقب فهمان أفندي أطلقه الصيدلاني عمر على جاره المذيع تهكّمًا، لأنه كان يهرطق في قضايا دينية لا يختلف عليها اثنان) وكان أهل الحي يعللون تلك الصداقة بأن فهمان أفندي لا يجد من يستمع إلى هرطقاته سوى المجنون، والمجنون لا يجد من يأخذه على محمل الجدّ سوى فهمان، لذلك كان كل منهما يكمّل الآخر.
سأل فهمان المجنون ذات مرة بعد أن شعر بأن علاقتهما أصبحت متينة:
- لماذا تدعي الجنون وأنت عاقل؟
- أجابه وهو يعبّ الشهيق بخبث: مجنون مستور خير من فقير عاقل.
لم تكن صورة الشبح تفارق خيال المجنون، ومما زاد الأمر تعقيدا أن الشبح في إحدى المرات رمقه بنظرة ساخنة ساخرة طويلة، أدرك معها أن الأمر حقيقة وليس وهمًا، فأصبح ذلك الشبح شغله الشاغل:
- من هو؟ ماذا يريد مني؟ لماذا رمقني بتلك النظرة المرعبة الساخرة؟
تلك الأسئلة المقلقة كان يحدّث نفسه بها وهو يهم بدخول مأواه في إحدى الليالي المقمرة، وقبل أن يبدأ بإحصاء غنائمه فوجئ بالشبح يقف أمامه، ويكلمه بكلام لم يفقه كثيرًا منه لهول الصدمة.
مضت عدة سنوات لم يشاهد أحد من سكان الحي المجنون الأحمق خلالها، فقد اختفى بشكل مفاجئ، وكثرت التكهنات حول سبب اختفائه، لكن لم يستطع أحد أن يجزم بحقيقة الأمر، وظل اختفاؤه لغزا حيّر الجميع لفترة طويلة، اضطروا معها إلى نسيان أمره معزين أنفسهم بأن الأيام كفيلة بحل ذلك اللغز الكبير.
في رمضان- وهو الشهر الذي اختفى فيه المجنون- اعتاد رجال الحي التحلق أمام شاشة التلفاز المعلق على أحد جدر المقهى الوحيد لديهم، فذلك الطقس توارثوه عن آبائهم، وظلوا محافظين عليه، رغم دخول التلفاز إلى كل بيت، وفي إحدى الليالي بعد انتهاء المسلسل اليومي، حان موعد برنامج فهمان أفندي، الذي يحب أهل الحي متابعته من باب المباهاة لا أكثر، أطل بابتسامته العنيفة التي توحي بأنه يريد أن ينقض على المشاهدين:
- أعزائي المشاهدين، يسعدنا في هذه الليلة أن نستضيف المفكر الإسلامي الكبير صاحب الآراء التنويرية الجريئة، الأستاذ ...... غطى صراخ أحدهم صوت المذيع بعد أن وجهت الكاميرا نظراتها إلى الضيف:
- أليس هذا ... ؟ هل ترون ما أرى؟
- نعم إنه هو بشحمه ولحمه.
بعد انتهاء الحلقة عاد المشاهدون أدراجهم، مالئين الطرق بأحاديثهم مع أنفسهم كما يفعل المجانين تمامًا.
ـ[منى الخالدي]ــــــــ[11 - 10 - 2010, 05:21 م]ـ
"وافق شنّ طبقه"
لكن ثمّة سؤالٍ يراودني، أين غاب ذلك المدعي للجنون كلّ هذه الفترة؟
ـ[أحاول أن]ــــــــ[12 - 10 - 2010, 01:32 ص]ـ
بارك الله مدادكم أستاذنا ..
الرمز في هذه القصة من أخطر أخطر ما ابتُليت به الأمة وسبب خيباتها بالفعل، فكانت رؤية الكاتب واضحة وقضيته مصيرية.
يقول يوسف إدريس:" إن القصة القصيرة رصاصة سريعة تصيب الهدف فتحقق ما تعجز عنه الرواية"،
لكني وجدتُ هنا "وابلا من رصاص":
- الهدف الواضح من النص واتجاهه مباشرة للمنطقة الملغَّمة في هذا الخطر" ماضي التنويريين كما يُسمَّون ".وهي منطقة دونها خط دفاع شرس من جمهور المتعصبين لهم بدعوى "التوبة تجب ما قبلها " وهي مثار حنقهم على مثل هذه القصة.
- - تعليل التسمية "المجنون الأحمق "وهي رمز من وراء الرمز ..
- دور الإعلام وفهمان أفندي ..
- الشبح الخفي الذي يقتنص وقت الأوبة وقلة الحصاد ..
- رمضان، رمز للاستغلال العاطفي "دينيا" ..
- اللقب "المفكر الإسلامي التنويري الجريء"
- والرصاصة الأخيرة هي المؤلم الأعمق في النص: أن أهل الحي عادوا للحديث مع أنفسهم! ولم يحرّكوا ساكنا فهم شركاء في الجنون.
قصة قصيرة ترتدي حزاما ناسفا، ولغة تنتقب بالرمز إبداعا وإيجازا، ولا عجب فأنتم من سدنتها ..
شكر الله لكم نبل الهدف، ونفع بكم هذه الأمة ..