فهو ينتقل من حال ٍإلى حال فقد كانت متعة روحه بين واحات الأدب والأوتار. وأرى أن الشاعر وُفق في أسلوب الالتفات هنا جدا لأن المعنى يفضح حال الشاعر الإنسان الذي تغير حاله وتبدلت نفسه.
ومِن جماليات هذا البيت الموسيقى الداخلية بين أجراس حروف الكلمات:
(معبد، عادت , تعد , متعتي , مرتع) فتكرار جرس العين يوحي بعمق معاناة الشاعر كعمق مخرج حرف العين (الحلق) الذي يخرج بعد ضيق في المخرج كما هي حال الشاعر الذي يضيق ذرعا بالحزن الذي يُكابده.
قد أشغل القلب عما يستلذ به = من التغني أو التطواف في الكتب
بدأ السر يُكشف رويدا وريدا فإن هناك ما يشغل القلب عن المتعة والراحة أو حتى عن القراءة الحرة التي كان يحبها الشاعر وكلمة التطواف جاءت معبرة جدا عن تعلق الشاعر بالقراءة الحرة ـ الاطلاع ـ فقد كانت موجزة جدا تحمل معاني كثيرة فالقراءة أشبه بالرحلة التي تنتقل عبرها من كتاب إلى كتاب آخر. وحملتْ الكلمة معنى القراءة بشغف فإن الإنسان لا يطوف إلا بعدَ رغبة , وحملتْ معنى الثقافة المتنوعة فإن التطواف والتجوال يكون بين علوم متنوعة والشاعر هنا يُلمح لنا عن سعة ثقافته ضمنيا فهو فخر ضمني نتقبلهُ بكل حب لأنه نفذ إليه عبر الرمزية.
نُلاحظ هنا تكرار حرف التاء في (يستلذ , تغني , تطواف , الكتب)
فبي من الهم معنى لا يصوره = صدق الشعور ولا وشي من الكذب
لقد بلغ هذا الهم مبلغا عظيما فلم يعدْ ينفع معه حتى تعبير الشاعر الصادق عنه لأن الكلمات لا تسعفهُ ولا تستطيع أن تعبرَ عن كل ما به مِن مشاعر الحزن والأسى ولا حتى التجمل كذبا.
كل تلك الأساليب عجزت عن وصف وتصوير مشاعره.
الطباق بين الكذب والصدق بديعٌ اختصر المعنى فيه الشاعر.
وبي من الهم والأحزان ما عجزت = عنه القوافي وأعيا منطق العرب
حتى القوافي التي يتقنها الشاعر لم تُجدي نفعا في التعبير عن مشاعره ولم تبح عن ما به!
لقد أعيا حزنه منطق العرب!! أي حزن هذا استشرى في روح شاعرنا حتى أن كل العرب لا تُطيق ولا تقدر على معرفته أيضا والحديث عنه.
ونحنُ نعرف أن العرب أمة فصاحة وبيان وحِكمة.
ولكمة العرب هنا دلالة عميقة فشاعرنا لم يختر كلمة الشعراء أو كلمة الأدباء أو كلمة أخرى ولكنه اختار كلمة العرب لأنه هو ذالك الرجل العربي الذي يفتخر بعروبته ضمنيا ويرى فيهم صفات المروءة والشجاعة فهو مَن يفخر بعروبته وإن ْ كان ضمنيا ولم يُصرح ولكنه يصل إلى فكرنا عبر هذا الوصف الرائع.
ما أكذب الشعر ما أخزى تشدقه = الحزن ليس كلاما لف بالوصب
أسلوب تعجب يوحي لنا أن الشعر لغة كاذبة أمام طوفان الحزن في نفسه. كيف لا يرى الشاعر الشعر بهذه الصورة لأنه يرى حُزنه فوق أي لغة تعبيرية. بل هو يراه مجرد وسيلة تشدق إنْ أتى بجوار حزنه محاولا أن يعبر عنه.
هو يرى الحزن ليس كلاما أو مفردات تُرص بجوارِ بعضها بعضا, بل هو شعور عميق مُرهق للنفس, يؤلم الروح, لا يجدي نفعا معه شيء. فالمفردات التي تدل على الوصب ـ التعب ـ لا تدل على ما به. وتأتي كلمة لُفَ لتعبر عن مدى المعاناة التي يلقاها شاعرنا فيرى كل ما حوله تكلفا وتصنعا لا يُحقق صدق شعوره.
فليس لي أمل ليؤنس الروح أو = خيط أطارده من طيف مغترب
هذا البيت هو لُب القصيدة ـ في النقد نُطلق عليه لحظة التغني عند الشاعر ـ لأنه يكشف لنا عن سبب معاناته أخيرا بعد أن أسهب في وصفها وتصويرها لنا.
فليس هناك أمل بمِن يُريدهُ وهو أنيس الروح الوحيد الذي كان سببا في أنسه وإدخال السرور لقلبه ومبعث بهجته,
لم يعد هناك لو خيط رفيع قصير يستطيع أن يمسك به لعله يصل إلى طيف المغترب.
وكلمة مُغترب توحي بأن مَن يبحث عنه غريب بعيد عنه مع أنه كان له أو كان يأملهُ.
فالغربة لا تأتي إلا بعد الألفة مع الشخص والمودة والصحبة الجميلة وإلا لما أحس بها.
فالإنسان الذي يفتقده كان معه يحيا في كنفه بحب ومودة ولكن لأمر ٍما أضحت الغربة هي حالهما.
إذن الغربة عن الرفيق أو الحبيب هي سبب معاناة الشاعر وسبب همومه.
هذا البيت يوضح مدى دفاع الشاعر عن حبه وقدرته على الجهاد لأجله (مطاردة) ولكن هناك حائلا عظيما يحول بينه وبين الوصال!!!!
فلست أرجو وصالا كي يعللني = ولست مرتقبا نيلا لمرتقب
¥