والجواب أن الآية تتحدث عن صور الوحي لا عن الرؤية، والوحي إنما يقع في الدنيا لا في الآخرة، فالآية موافقة لمذهب السلف في نفي الرؤية في الدنيا ولا تعارض أدلة إثباتها في الآخرة.
هذا ما يتعلق بما استدلوا به من القرآن الكريم، أما من السنة فقد استدلوا ببعض الأحاديث كحديث أبى ذر رضي الله عنه أَنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنّى أراه) رواه مسلم. قالوا: هذا الحديث ينفي الرؤية مطلقا حيث استبعد حصول الرؤية بقوله: (أنّى أراه) وأنّى بمعنى كيف. ولو علم صلى الله عليه وسلم بأنه سيراه في الآخرة لأخبر أبا ذر رضي الله عنه.
والجواب عن هذا الاستدلال بأنه خطأ بيِّن، فسؤال أبي ذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ متعلق بحادثة المعراج، وهي حادثة وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي في الدنيا وليست في الآخرة، وعليه فالنفي النبوي لا ينسحب على الرؤية في الآخرة.
وكونه صلى الله عليه وسلم لم يخبر أبا ذر في نفس الحديث بأنه سيراه في الآخرة غير لازم، لأن سؤاله رضي الله عنه عن واقعة المعراج فحسب، فجاء الجواب مقتصرا على تلك الحادثة.
أما المروي عن مجاهد في هذه المسألة، وما نقل عنه من تفسير قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} فهو رأي تفرد به، وعدَّه العلماء شذوذا، قال الإمام القرطبي تفسيره: " قال ابن عبد البر: " مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا – يعني أن الله سبحانه يجلس نبيه صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه- والثاني في تأويل {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر ".
ومع هذا فلا يدل قوله هذا على أنه - رحمه الله - لا يرى الرؤية، وإنما غاية ما فيه أنه ذهب في تفسير الآية مذهبا مخالفا لمذهب من أثبتها، ولا يعني انتفاء دلالة الآية عنده على الرؤية انتفاء دلالة غيرها من الأدلة الأخرى، ولا سيما الأحاديث والتي بلغت حدَّ التواتر.
تلك كانت شبهات من أنكر رؤية الباري سبحانه، وتلك كانت ردود أهل السنة عليهم، والتي ظهر بها مدى صحة مذهب السلف في إثبات الرؤية، ومدى ضعف وتهافت أدلة من أنكرها والله أعلم.
قال ابن تيمية: " والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال:
فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانا وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع
والقول الثاني ـ قول نفاة الجهمية انه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة
والثالث ـ قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة، وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق السارى في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم
ثم من أثبت الذات قال يرى متجليا فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال لا يرى إلا مقيدا بصورة، وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين انكار رؤية الله واثبات رؤية المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق والا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق، وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقا فيقتضى أن يكون الرب معدوما وهذا هو جحود الرب وتعطيله وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وأما تناقضه فقوله: ما غبت عن القلب ولا عن عينى ** ما بينكم وبيننا من بين يقتضى المغايرة وأن المخاطب غير المخاطب وأن المخاطب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود
وقوله ما بينكم وبيننا من بين فيه اثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا اثبات لاثنين وان قالوا هذه مظاهر ومجالى قيل فان كانت المظاهر والمجالى غير الظاهر والمتجلى فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة وان كان هو اياها فقد بطل التعدد فالجمع بينهما تناقض وقول القائل فارق ظلم الطبع وكن متحدا بالله وإلا فكل دعواك محال إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله وكن متحدا بالله وهو المخاطب بقوله كل دعواك محال وهو القائل هذا القول وفى ذلك من التناقض ما لا يخفى
وان أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد وإن كانا استحالا إلى شئ ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لابد أن يستحيل وهذا ممتنع على الله تعالى ينزه عنه لأن الإستحالة تقتضى عدم ما كان موجودا والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شئ من ذلك ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شئ منها نقص يتعالى الله عنه ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضى أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غنى عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل والعبد متصفا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول.
مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/ 336.