[مقال: نقطة التوازن (سلمان العودة)]
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[24 May 2008, 08:48 ص]ـ
"ليس الأمر أن ينتقل من خطأ إلى صواب، بل من نقطة توازن إلى أخرى هي أدق منها؛ يدركها بالفقه الخاص المتحصل بدوام المراقبة، وكثرة الاستعانة، وكم في آحاد سلوكنا من المعاني الفاضلة التي نستند فيها إلى حجة شرعية، ولو زيد لنا في العلم والفضيلة؛ لوجدنا أمثل منها وأحسن وأقرب زلفى."
====
نقطة التّوازن
د. سلمان بن فهد العودة
المصدر: موقع الإسلام اليوم ( http://www.islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=38&artid=12743)
تأملت كم من الأسرار العظيمة في سورة الفاتحة، وخاصة تحت قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، دعوة جماعية للهداية تكرّس التفوق على الأنا التي تحاصر الآخرين بالخطأ، وتختص نفسها بالصواب، فهو هتاف جماعي، ينشد الهداية، ويتضرع إلى الله بتحصيلها.
تأكيد أن الهداية ليست شأناً خاصاً فحسب، يتعلق بسلوك الفرد الأخلاقي؛ بل همّ قضية عامة للأفراد والأسر والمجتمعات، هداية الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه، وهداية المجتمعات بنشر العدالة، وحفظ الحقوق الإنسانية، وإقامة القسط بين الناس، وتحصيل المعرفة، وبناء الحضارة ..
استفراغ الجهد الذاتي في تحصيل الهداية؛ بالتفكّر والتأمل والبحث والتحري (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: من الآية14)، (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: من الآية3)، يتبعه الدعاء الذي يتمم ما قصّر فيه المرء، أو عجز عنه بطلب المدد والعون من الله.
ترميز لطريق الحق بـ (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو طريق الجنة في الآخرة، ولكنه في الدنيا يعني الوصول للمقاصد الصحيحة بأسهل وسيلة وأحسن سبيل، وهذا شامل لآحاد المسائل التي تعرض للبشر.
فكلما تردد المرء في أمر بين طرق شتى، كان منها ما هو مستقيم، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما هو معوج ..
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا اعوج الموارد مستقيم
فإذا تردد في دراسة، أو صفقة، أو زواج، أو سفر، أو مشروع، أو قرار؛ فثمت خيارات عدة بعضها أمثل من بعض، فالدعاء يشملها جميعاً بأن يهتدي المرء إلى أفضل سبلها، فضلاً عما هو أبعد من ذلك من خيارات الفكر والظن والفهم.
سماه صراطاً، وهذا يعني الاعتدال، ثم وصفه بالاستقامة لتأكيد المعنى، ولذا جاء في الأثر أن الصراط أحَدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعر، وهذا ليس تعجيزاً حتى يشعر المكلف أو السالك بأنه أمام تحدٍ لا يستطيعه، كلا؛ بل هو دعوة دائمة إلى الترقي الأمثل والأفضل، وأنه كلما وصل إلى نقطة من التوازن والاعتدال؛ وجد فوقها نقطة أخرى تناديه إليها، فلا يزال في صعدٍ وترق، يدركه أولاً بفضل الله الذي تضرع إليه وسأله الهداية، ثم يدركه بالقراءة (اقرأ وارق) ومنه قراءة هذه الآية، وهذه السورة، وهذا القرآن، وكل قراءة نافعة، ثم يدركه بالسلوك ولزوم الطريق، ودوام التيقظ، والتطلع للأفضل، والتجرد من التزكية المطلقة للنفس، واعتقاد أنها وصلت إلى التمام والنهاية، بينما الطريق أمامك يناديك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99).
إن بعض السائرين يصل إلى درجة ثم يتوقف عندها، ويعتقد أنها هي المقصود بالهداية؛ فيحاكم الناس إليها؛ غافلاً عما فوقها وما وراءها مما لم يصل إليه بعد.
والمرء يدرك بالتجربة أن مقاربة الالتزام الشرعي الدقيق لا تحقق بآلية فورية، ولا بدعوى عريضة، ولا حتى بحرص شديد حتى يتم للسالك تكرار المحاولة والإلحاح، والتطلع نحو الأفضل.
وليس الأمر أن ينتقل من خطأ إلى صواب، بل من نقطة توازن إلى أخرى هي أدق منها؛ يدركها بالفقه الخاص المتحصل بدوام المراقبة، وكثرة الاستعانة، وكم في آحاد سلوكنا من المعاني الفاضلة التي نستند فيها إلى حجة شرعية، ولو زيد لنا في العلم والفضيلة؛ لوجدنا أمثل منها وأحسن وأقرب زلفى.
ومن هذا قوله سبحانه: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر: من الآية18)، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (الزمر: من الآية55)، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف: من الآية145)، فحسن العمل بمطابقته للشرع إن كان ديناً، وتحقيقه للمصلحة إن كان دنيا، وهذا وذاك يزداد تأنقاً، وانسجاماً مع المقصود، وسلامة من المؤثرات السلبية والأغراض الشخصية وما يطرأ على الفعل، أو على نيته وتقصده، كلما أمعن المرء في مقامات العبودية والإخلاص والإقبال على النفس والتطلع للكمال اللائق بمثله .. والله أعلم.