[مقاصد التفسير عند ابن عاشور]
ـ[المؤمن]ــــــــ[23 Sep 2008, 04:39 م]ـ
[مقاصد التفسير عند ابن عاشور]
لا جرم أن ابن عاشور قد اطّلع على كثير من التفاسير، وتعرّف على مناهجهم فيها، وأدرك ما مدى إخلال بعضهم بعدم تحقيق بيان مقاصد القرآن، ومدى نجاح بعضهم في تحقيقها، وذلك ما حرص كل الحرص على استجلائه، يتتبعها " في كل سورة سورة، وينبه عليها في كل آية آية، واضعا أيدي القراء والدارسين على الجوانب الثمانية التي انتهى إليها استقراؤه، ولم يسبقه بالإشارة إلى بعضها غير الغزالي في الإحياء." (1) وأظهر غرضه في ذلك بقوله:" وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد، ومقدار ما تجاوزه، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه، وبين من يفصل معانيه تفصيلا، ثم ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم. " (2)
وابن عاشور بكلامه هذا يريد أن يهيئ القاريء لتفسيره إلى أن يتقبل ما يجده فيه من التفاصيل العلمية، حول كثير من القضايا وبالأخص الشائكة منها، في شتى المجالات، إن في التشريع، أو العقائد، أو في أحوال الأمة وما دار بين طوائفها من نزاع، ومذاهبها من خلاف، وما أثير حول الإسلام من شبهات من قبل أعدائه، أوممّن حذا من أبناء الإسلام حذوهم. فقارئ التحرير يجد نصوصا من الكتاب المقدس من العهدين القديم والجديد، وأخرى من التاريخ وعلم الفلك والجغرافيا، وعلم الكلام وأصول الفقه وأقوال المذاهب الأربعة وغيرها، ورقائق الزهاد وإشارات المتصوفة وهلم جرا، وكل ذلك مما يخدم النص القرآني ومقاصده، في إصلاح الأمم والمجتمعات في شتى أحوالها وشؤونها، الفكرية، والعقدية، والسلوكية، والاجتماعية، والاقتصادية, وذلك ضمن ما عبر عنه ابن عاشور بقوله:" إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى "وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية." (1)
وابن عاشور حدد موقفه جليا من مسألة طالما اختلف حولها العلماء، وهم فريقان في إمكان التعرف على مراد الله وعدمه، ولخصها في قوله: " فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بيّنا وتعبدّنا بمعرفة مراده والإطلاع عليه فقال:) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ((2) سواء قلنا إنه لايمكن الإطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة إن الإطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن ـ وهو خلاف لا طائل تحته ـ إذ الفصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الإطلاع على تمامه " (3)
والآن ألخص تلك المقاصد الثمانية، بل العشرة التي استقراها ابن عاشور من القرآن نفسه وقد بيّنها في المقدمة الرابعة من تفسيره وذكر آخرين أثناء تفسيره لسورة آل عمران، ولم يدع أنها هي النهاية، مع إشارة إلى سبق أبي حامد الغزالي إلى بعضها في إحياء علوم الدين ..
وتلك المقاصد هي:
1 ـ إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح.
2 ـ تهذيب الأخلاق.
3 ـ التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة.
4 ـ سياسة الأمة وحفظ نظامها.
5 ـ القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم.
6 ـ التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار، وكان ذلك علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر.
7 ـ المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، من وعد ووعيد،وترغيب وترهيب.
8 ـ الإعجاز بالقرآن ليكون آية على صدق الرسول. (1)
9 ـ كون القرآن شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.
10 ـ تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحةـ في كل زمان ـ لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية .... (2)
لا يفتأ ابن عاشور يذكّر بما على المفسر أن يفعله، وما ينبغي عليه أن يتحراه في تفسيره من غرض في " بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتمّ بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل،فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله،ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات. " (3)
هكذا يوضح ابن عاشور معالم تفسيره جلية، لأن ذلك مما يتيح للقاريء أوللد ارس التصور الصحيح لمنهجه فيه، فيجد له ما يبرر به توسعه في اقتناص المعاني والأفكار من معارفه العلمية المتنوعة التي يقصد من ورائها فهم القرآن وتثويره بين الفينة والفينة ليناسب العلماء خاصة ممن تعددت تخصصاتهم وتاقت نفوسهم إلى مزيد من الفهم، خاصة إذا علم الباحثون أن هذا التفسير توجه به صاحبه إلى الطبقة العالية من التلاميذ وكذا العلماء.
قيده الفقير إلى عفو ربه محمد نذيرالجزائري