دخلنا في حلقة مفرغة، ومستمرة، من عملية التدهور والمزيد من التدهور واعتبار هذا التدهور عقوبة نستحقها لهذا السبب أو ذاك، ومحاولة الدفع بالمزيد من الشعائر التي تعرضت لزيادة و إنقاص: أزيدت عليها البدع، و انقصت منها الأبعاد الاجتماعية ..
وما الذي نتج عن هذا كله؟ .. نتج إرث راسخ من هذه الثقافة التي كرست الواقع، وتقدس هذا الإرث عبر التقادم، وتماهى مع الدين ومع النصوص الدينية رغم أنه مخالف لها في نقطة انطلاقها ونقطة مقصدها، وتحول هذا الإرث، الذي تكون في معظمه في غير عصور الريادة، بل في عصر الانحطاط، ليكوّن المنظار الذي ننظر من خلاله لكل النصوص الدينية، بكل ما يعني ذلك من سيطرة لهذه الثقافة على التعامل مع هذه النصوص. لم يخل الأمر من مفكرين وثوار ومصلحين حاولوا التغيير، حتى داخل المؤسسات التي كرست هذا الواقع، لكن التيار كان أقوى من هذه المحاولات، التي تم وأدها في مهدها، أو تقعيدها واحتوائها ..
ما الذي نتج عن هذا كله أيضاً؟ نتج هذا 'الفرد' الذي تعايش مع واقع الانهيار والتردي .. فرد تبلد إحساسه فلم يعد يدرك أنه صار في الدرك الأسفل. حتى إذا ثار، لهذا السبب أو ذاك، تكون ثورته عاطفية، ولذا ما تلبث أن تخمد، دون أن يزول سبب هذه الثورة، وما يلبث الفرد أن يرجع لتلك التغيرات المجتزئة التي تجعله يدور في ذات الحلقة المفرغة، بعيداً عن عملية تغيير حقيقية ..
إنه الفرد الذي يحمل 'عبء' التاريخ على كاهله. بفارق أنه يحمل عبء معين من هذا التاريخ وليس التاريخ كله. فقد حدثت لنا 'قطيعة' مع أفضل ما في تاريخنا، رغم أننا نقدس هذا الجزء الإيجابي من تاريخنا، إلا أنه تم اختطافه لصالح ما هو سلبي في هذا التاريخ، لذلك لا تواصل لدينا مع الروحية التي أنجزت الفتح المبين: فتح العالم أجمع، روحية 'قوموني'، روحية' متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً'؛ روحية التكافل والعدل الاجتماعيين، روحية 'كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته' التي تجسد تلاحم الحقوق و الواجبات، ولكن تواصلنا الحقيقي هو مع إرث الرضوخ والقبول، إرث التعايش مع ما لا يجب التعايش معه، والاستمرار فيما لا يمكن الاستمرار فيه ..
وإذا كنا قد وصلنا إلى هذا الدرك من بوابة 'بعض' التاريخ، وعبر تراكماته، فإن لا طريقة للخروج إلا عبر البوابة نفسها .. نسف التاريخ كله – كما يدعو البعض – لن يؤدي إلا إلى انهياره فوق رؤوسنا ودفننا تحته، لكن الحل هو في التفاعل مع معطياته بشكل يجعل (الوعي) في حالة تواصل مع ما هو إيجابي (وهو كثير)، ويجعله في حالة قطيعة مع ما تضخم وتراكم من سلبيات عبر استئصالها من الإرث الثقافي، رغم ما في ذلك من خطورة توازي خطورة المشي في حقل ألغام ..
الأمر في النهاية يتطلب ذلك .. تاريخنا هو تاريخ خام، والتاريخ الخام، مثل النفط الخام، لا يمكن أن يستخدم حقاً .. لكي نصل إلى النهضة لا بد من 'تكرير' هذا التاريخ، تنقيته مما تضخم وتراكم من سلبياته، من أجل الوصول إلى المادة الفعالة فيه، تلك المادة الإيجابية التي لا تزال كامنة فيه، رغم كل ما ران عليها عبر التاريخ ..
آلية تكرير التاريخ الخام هذه لن تتضمن إنكار سلبياته، لأن الوصول إلى الإيجابيات يتطلب حتماً إزاحة السلبيات. و إزاحتها تتطلب تحديدها. سيكون ذلك مؤلما جدا طبعا، و لا يخلو من خطورة ايضا: و لكن كذلك كل العمليات الجراحية التي تنقذ حياة مريض يوشك على الهلاك .. !
القدس العربي- 6 - 7 - 2008
ـ[سالم سرور عالي]ــــــــ[20 Jul 2008, 06:40 م]ـ
نفع الله بكم. مقال مميز ومتين.