تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السؤال نفسه يمكن أن يطرح على الموظفين ورؤساء الفروع في البنوك العملاقة ذات الفروع المتعددة. أيهما تفضل: عند حصول تعارض ما، الفائدة الاقتصادية لبلدك أو خسارة البنك الذي تعمل فيه، أم العكس، ربح البنك وخسارة بلدك؟ هل سنصدق أي جواب يفيد بأي شيء غير إثبات الولاء لهذا البنك وأرباحه؟ لِمَ الأمر يكون مقبولاً عندما يكون جزءاً من أخلاقيات العولمة العابرة للقارات –أو على الأقل مسكوتاً عنه– ويصير إشكالياً ومنافياً للمواطنة عندما يكون مرتبطاً بالدين –وبالإسلام تحديداً؟

ماذا لو أجبنا على أسئلتهم بأسئلة أخرى: ماذا لو سألنا من يطرح هذه الأسئلة سؤالاً مقابلاً: أيهما أولاً: حريتك الشخصية أم الوطن؟ أيهما أولاً مبدأ «الفردية» أم الوطن؟ أيهما أولاً حرية التعبير عن الرأي أم الوطن؟

سيقولون ويؤكدون أن الوطن يجب أن يضمن هذه «الأشياء» كلها، ولذا لا تعارض بينهما. ما الذي يجعل هذا هنا بديهة ولا يجعله مع قيم «الدين» مثلاً –أم أنهم يريدون «وطناً» على مقاس «قيمهم» فقط- لماذا يكون هذا صواباً معهم، وليس صواباً مع الإسلاميين مثلاً الذين سيرون أيضاً أنه لا تعارض ما دام أن الوطن «سيتركب» على أساس الدين؟

ومرة أخرى: لماذا يفترضون أن القيم الدينية إذا جاءت قبل الوطن سيكون ذلك نقصاً في المواطنة، ولكن ليس الأمر ذاته مع قيم أخرى مثل حرية الرأي والحرية الشخصية .. إلخ ..

ألا يتنادى الليبراليون في كل مكان، إذا تعرضت قيمهم للحظر حتى لو كان ذلك في دول أخرى؟ .. ألا تكفي حادثة صغيرة (وربما فردية) ولكنها تنتهك قيمهم لتجييش مشاعرهم، وربما ما هو أكثر؟ .. ألم يستفزهم جميعاً وفي كل الدول –أن حكماً بالإعدام قد صدر على أفغاني قد ارتدَّ عن الإسلام؟ .. فهبوا جميعاً من أجل «الحرية الشخصية» – رغماً عن أنف الحدود والخرائط الدولية. ألا يسيرون المظاهرات ويقيمون المؤتمرات يضغطون ويهددون بقطع المعونات وحتى العلاقات من أجل مفهوم «الجندر» و «تمكين المرأة» .. إلخ. لماذا قيمهم يحق لها أن تكون عابرة للقارات، وأن تكون قبل «المفهوم التقليدي» للوطن ولكن لا يحق ذلك للقيم الدينية وللمؤمنين بها؟ ..

في السياق نفسه، وضمن الاستطلاع «الفضائي» ذاته، وجه سؤال إلى فتاة مصرية محجبة «جداً»: هل المسلم الباكستاني أقرب إليك من المصري القبطي؟ الفتاة ردَّت بذكاء .. لكن السؤال نفسه يستحق التوقف.

فبعيداً عن اختيار المسلم (الباكستاني – الأفغاني) ودلالاته التحريضية، فإنه من التسطيح اختزال أي إنسان بهذا الشكل: مسلم باكستاني، أو قبطي مصري .. قد يكون هذا المسلم الباكستاني مسلماً بالهوية فقط، وقد يكون لا يعرف من الإسلام ولا عن الإسلام شيئاً، وقد يكون على العكس من ذلك، مسلماً صالحاً عالماً (للذرة!) وشخصاً حاصلاً على أرقى الشهادات التي يحاول خدمة مجتمعه بها .. وقد يكون غير ذلك، وقد يكون بين ذلك وذلك، كما سيكون جارك المسلم أو حتى شقيقك .. هل من الممكن –وهل من العدل أصلاً– اختزال أي إنسان –إلى خانة واحدة في هويته فحسب؟ ثم ما هو مقياس «القرب» و «البعد» المقصود؟ وكيف يمكن لفتاة مصرية أن تكون «أقرب» أو «أبعد» لشخص لم تره في حياتها ويعيش في قارة أخرى؟ هل المقصود بالقرب هو محض التعاطف؟ هل هناك قانون يمنع التعاطف؟ وهل التعاطف مع آخر من دولة أخرى يناقض مفهوم المواطنة؟ هل يخشى من هذا التعاطف أن يتطور ليصير شيئاً آخرَ؟ نعم .. لقد حصل ذلك فعلاً، لكنه لم يحصل إلا بمباركة ودعم من الحكومات المعنية (وهي الحكومات نفسها التي تحارب الآن مجرد فكرة التعاطف!).

إن مفهوم المواطنة في الإسلام يحتاج فعلاً إلى تأهيل وتأصيل، لكن استعداء الدين بهذه الطريقة لن يبني دولة ولا وطناً، فبوسع القيم الدينية، عندما تستثمر إيجابياً، أن تشكل إنساناً منتجاً فاعلاً للمجتمع – ويمكن لها، عندما تستعدى، أن تتحول لتصير هدّامة فعلاً – والطريقة التي يتم بها طرح هذه الموضوعات حالياً استعدائية تماماً ولن تخدم «الوطن» .. ولا «المواطنة».

.................................................. .................................................. ........................

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير