تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنهم يعاملون (الغرب) ليس ككتلة واحدة تطورت وفق منظومتها الداخلية لتصل إلى ما وصلت إليه – بل يتصورون أن الغرب يمكن أن يتجزأ، وأن "المساوئ" يمكن أن تعزل عن "الإيجابيات"، أي كما لو أنها ليست ناتج "ثانوي" حتمي من تفاعل أكبر منه هو جوهر ومحور الحضارة الغربية ..

هذا التسطيح في النظر للغرب، يزيد من الانبهار به، لأنه يوهمهم أن استلهام التجربة الغربية – مع حذف ما يعتبرونه سلبياتها- أمر سهل جداً، ووهمهم يقودهم إلى ما هو أكثر من ذلك: إذ يتوهمون أن الغرب يمكن أن يشهر إسلامه بسهولة؛ لأنه مسلم فعلاً! – (لولا بعض هذه الأمور .. ) .. وكل ذلك، كتحصيل حاصل، يقودهم إلى "أسلمة القيم الغربية" .. بالذات في نسختها الأمريكية، يحدث ذلك دون وعي أحياناً، وبوعي تام في أحيان أخرى .. ويعني ذلك أنهم يتفحصون القيم الغربية (بنسختها الامريكية خصوصا)، ويبحثون في التراث عما يتوافق معها، ولأنهم يبحثون بطريقة تتساوى فيها المنامات مع حكايا الصالحين مع الأحاديث – الآحاد والصحيحة مع الضعيفة مع المتواترة – مع الآيات القرآنية الكريمة، فإن لديهم هامش واسع لكي يجدوا ما يرومون إيجاده .. و لو بأجتزاء النصوص من سياقها و من فضائها المعرفي ( .. وكذلك سيجد صاحب أي تراث، بوذي أو هندوسي أو مجوسي، لو أراد أن يبحث بطريقتهم تلك) .. والنتيجة التي نصل إليها في النهاية: (أرأيتم؟ .. لم يتفوقوا علينا إلا بما نملكه أصلاً .. لقد طبقوا ما هو موجود عندنا .. بعد ان تركناه نحن .. علينا فقط أن نعود فقط الى تراثنا، و قرائته من جديد حسب المنظور الغربي).

* * *

ولو أن القيم الأمريكية المحركة لسلوك الشارع الأمريكي، أحصيت عبر الأمثال الشعبية السائدة هناك (كما فعل Stan Nussbaum صاحب كتاب "الفباء الثقافة الامريكية" ABCs of American culture- ) لوجدنا أن "هؤلاء" سيتدافعون لبحث مرادفات لها في النصوص والحوادث التي حصلت في عهد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام – ولأن كل التجارب البشرية قد تمتلك عرضاً بعض التشابه، حتى وإن اختلفت في نقطتي الانطلاق والهدف – فإنهم سيجدون ما يبحثون عنه، دون التفات كبير للاختلاف المهم: نقطة الانطلاق، ونقطة الهدف من هذا الانطلاق .. و هكذا فأن قيم الفردية و الاستهلاك و النجاح بمعناه المادي المجرد – و كلها أركان أساسية في هيكل القيم الامريكية، ستتم أسلمتها عبر أختيار نصوص مجتزاة من سياقها، يتم حشرها في معرض محاولة التوفيق بين القيم الامريكية و الاسلام ..

فالمثل الذي اختير ليكون بمثابة الوصية الأولى من الوصايا العشر الامريكية وهو "لا تستطيع أن تجادل النجاح" You can't argue with success– والذي يجسد "حلم النجاح الأمريكي"، سيتحول عند هؤلاء و فوراً إلى المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وإن اليد العليا خير من اليد السفلى، والوصية – المثل الثاني "عش ودع غيرك يعيش" and let Live Live والتي تكرس بوضوح نمط الحياة و قيمة الفردية شديدة الاهمية و التجذر في المجتمع الامريكي، سيتم تحويلها إلى أن "المؤمن هين لين، كيس فطن سهل التعامل مع الآخرين، يبتسم في وجوه الآخرين لأن تبسمه صدقة. والوصية الثالثة "الوقت يطير عندما تمرح" Time flies when you are having fun.. سيقولون عنها "إن لبدنك عليك حقاً، وإن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام سابق زوجته عائشة، وإنه كان يداعب الصغار والعجائز، حتى الوصية الرابعة "تسوق حتى الموت" Shop till you drop ، التي تمثل نمط الحياة الاستهلاكي على الطريقة الأمريكية (الضروري و الحتمي لدوران عجلة الانتاج و صب الارباح في جيوب الرأسماليين)، سيتم استيعابها بالقول إن الإسلام ليس ضدّ الرفاهية، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يمتلك بردة خضراء جميلة، وأن فلاناً من الصحابة ترك كذا وكيت من الأموال عند وفاته، أما وصية "فقط اعملها Just do it" والتي صارت بمثابة إعلاناً عن نمط الحياة الراكض اللاهث، فإنهم سيربطون بينها وبين "إذا عزمت فتوكل على الله" .. أو "اعقلها وتوكل" – كذلك سيربطون حتماً بين تقديس الوقت عندنا وكيف أن الله سبحانه وتعالى أقسم به في سورة العصر، وبين ( Time is money ).. أو الوقت الثمين ..

وهكذا فإن عملية التوفيق التلفيقي تجري بشكل آلي ولا واعي تقريباً، ودون انتباه إلى القيم المختلفة التي تجعل كل هذه الوصايا مختلفة عن الوصايا الإسلامية حتى لو حصل تشابه عرضي بينها .. كل وصية من هذه الوصايا تعبر عن قيم أمريكية ليس من السهل أسلمتها – إلا إذا كانت هذه الأسلمة هي محض صبغة وقناع زائفين لقيم أمريكية يراد تسويقها بأي شكل .. و لو كان الثمن لي عنق النصوص الدينية ...

وهكذا كان الإنجاز الأكبر لهؤلاء - الذين نشدد على أنهم متدينون حقاً – هو أنهم أسلموا بعض القيم الأمريكية (خاصة: الفردية، والاستهلاك)، وضعوا عليها بعض الشعارات والأقوال .. إنها قيم يروج لها بكل الأحوال، مع الإعلام ونمط الحياة وكل شيء .. كل ما في الأمر، أن هؤلاء يحاولون جلب الراحة لضمائرنا عبر القول أننا سنكون مأجورين لو تبنيناها .. !!

7 - 8 - 2008

القدس العربي

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير