تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأنا من هذا المنبر أرفع يدى إلى السماء وأبتهل إلى الله أن يكرم ذلك الغنىّ الذى قدم الصك المفتوح إلى الدكتور مصطفى وقال له: أنفق على حلقاتك كل ما يحتاجه هذا المشروع، ولا تشغل بالك من هذه الناحية، وأدعوه سبحانه أن يكتب له الفردوس الأعلى. فهذا الرجل هو مثال للمسلم الغنى المتحضر الذى يفهم الإسلام فهما عميقا ولا يكتفى بذلك بل يطبق هذا الفهم أحسن تطبيق. اللهم آمين. أما التلفاز المصرى الذى أوقف إذاعة تلك الحلقات بعد أن نجحت نجاحا هائلا واستولت على ألباب المشاهدين، وكانوا يجنون منها شهدا علميا صافيا، فليس له عندى إلا أن أقول: أنت بهذه الطريقة لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل. وهنيئا لك اهتمامك بالتفاهات والمضار الكثيرة التى أفسدت عقول الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، وإن لم تكن أنت وحدك الذى تصنع هذا، بل كل التلفازات العربية تفعل نفس الشىء. روحوا، منكم لله!

ومما له دلالته هنا أن د. مصطفى محمود قد جمع بين الخيرين: العبادة والعلم، إذ بنى من أموال أهل الخير والصلاح مسجدا، وألحق به أربعة مراصد ومتحفا تلقى فيه المحاضرات العلمية، ثم زاد فأنشأ مستشفى لمعالجة المرضى بأجر رمزى. ولو أنه أضاف إلى هذا تشجيع الكتاب المبتدئين الذين يُشَام منهم الخير، من خلال طبع ما يؤلفون من كتب ودراسات فى المجالات التى لا تجد من يقبل عليها من الباحثين والعلماء، لكان قد بلغ سماء عالية من سماوات الخير والنفع الجزيل، وبخاصة أن هذا العمل لو تم لاجتذب الانتباه وحذا حذوه كثير من الناس. ومع هذا فيحمد له ما فعل، وعلى غيره أن يواصل الطريق ويكمل المشروع.

أقول هذا لأن للعلم والثقافة فى الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة حتى لقد فضل الرسول الكريم العلماء على العابدين تفضيلا كبيرا، وأكد صلوات الله عليه أن سبيل العلم توصل صاحبها إلى الجنة. كذلك فالله سبحانه وتعالى لم يأمر رسوله بالاستزادة من شىء سوى العلم: "وقل: رب، زدنى علما"، وبيَّن عز شأنه أنه لا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ومع هذا فإن المسلمين، فى هذه الفترة التاعسة البائسة من تاريخهم، يبغضون القراءة وأمور الفكر والثقافة بغضا شديدا كأنها سمٌّ ذُعَافٌ رغم أن الإسلام لا يصلح دون علم، إذ هو عنصر جوهرى فى بنائه لا يتم إلا به، فضلا عن أنه لا مستقبل للمسلمين إلا بالعلم والثقافة مهما ظن العوام والقاصرون منهم خلاف ذلك.

ومما لفت نظرى أيضا بقوة فى حياة الدكتور مصطفى محمود ما قرأته من أن الرئيس السادات قد طلبه ذات يوم ليكلفه بمهام وزارة من الوزارات، بَيْدَ أنه اعتذر قائلاً: لقد فشلت في إدارة أصغر مؤسسة، وهي مؤسسة الزواج، فقد تزوجت وطلقت مرتين، فكيف أستطيع أن أنهض بأعباء وزارة من الوزارات؟ وفوق ذلك فإنى أرفض ممارسة السلطة بكل أشكالها. ولأنى أنا مثله لا أحب الأعمال الإدارية فقد أحببت هذا الموقف منه حبا عظيما. وإنى لأستغرب تهافت كثير من المفكرين وأساتذة الجامعة على أن يتولَّوْا منصبا وزاريا، مع أن مكانة المفكر والمبدع والأستاذ الجامعى لا يعادلها، فى رأيى، أى منصب وزارى مهما علا شأنه، وبخاصة أن الوزراء فى بلادنا لا قيمة لهم فى كثير من الأحيان ولا يتمتعون بأية حرية، بل هم أقرب إلى الخدم، إذ عليهم أن يصدعوا بالأمر دون أن يتنفسوا. أو هكذا نفهم الأمر. وأنا دائما ما أقارن بين رجلين فى العصر العباسى: أحدهما هو الجاحظ الأديب المفكر المبدع العظيم الذى عُيِّنَ كاتبا فى ديوان الخليفة العباسى المأمون بن الرشيد فتردد عليه لمدة ثلاثة أيام، ثم لم يطق الاستمرار بعد ذلك فاستعفى فأُعْفِى. والثانى هو سهل بن هارون، الذى كان يتولى شؤون بيت الحكمة فى عهد المأمون أيضا، وهى مؤسسة تشبه هيئة الكتاب المصرية الآن. ومن كلام سهل فى هذا الموضوع أن الجاحظ لو كان بقى فى الديوان لأفل نجم الكتاب جميعا. ومع هذا فقد رفض الجاحظ الاستمرار فى ذلك العمل الإدارى لما فيه من تضييق على حريته. ورغم أن سهلا لم يكن شخصًا عاديًّا ولا كان الإداريون بوجه عام فى ذلك العصر أشخاصا عاديّين، بل كان كثير منهم من كبار المثقفين، كما كان عدد غير قليل منهم كتابا وأدباء يشار لهم بالبنان، فإن أعباء العمل الإدارى لم تترك له من الفراغ وروقان البال ما كان يتمتع به الجاحظ. وهذا سبب من الأسباب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير