ولقد شهد له أهل البصرة بذلك، حدث خالد بن صفوان، وكان من فصحاء العرب، فقال لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال لي: أخبرني عن حسن البصرة، فقال خالد: أنا خيرٌ من يخبرك عنه بعلم، فأنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه وأعلم أهل البصرة به، إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، ولقد رأيته مستغنيًا عن الناس زاهدًا بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده، فقال مسلمة: حسبك يا خالد حسبك كيف يضل قوم فيهم مثل هذا؟ !!
الحسن والحكام:
لما كان الحسن رضي الله عنه قد طلّق الدنيا برمتها، وقد رخصت في عينه، فقد هان عنده كل شيء، فلم يكن يعبأ بحاكم ظالم، ولا أمير غاشم، و لا ذي سلطة متكبر، بل ما كان يخشى في الله لومة لائم، ومن ذلك أن الحجاج كان قد بنى لنفسه قصرًا في " واسط " فلما فرغ منه نادى في الناس أن يخرجوا للفرجة عليه، وللدعاء له، فخرج الحسن، ولكن لا للدعاء، بل انتهازًا للفرصة حتى يذكر الناس بالله ويعظ الحجاج بالآخرة، فكان مما قال: ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض غروه، ولما حذره أحد السامعين من بطش الحجاج رد عليه الحسن قائلاً: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وفي اليوم التالي وجه الحجاج إلى الحسن بعض شرطه ثم أمر بالسيف والنطع (البساط من الجلد يوضع تحت المحكوم عليه بقطع الرأس)، فلما جاء الحسن أقبل على الحجاج وعليه عزة المسلم، وجلال المسلم، ووقار الداعية إلى الله، وأخذ يحرك شفتيه يدندن بكلام ويتمتم ببعض الحروف، فلما رآه الحجاج هابه أشد الهيبة، وما زال يقربه حتى أجلسه على فراشه، وأخذ يسأله في أمور الدين، ثم قال له: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم طيبه وودعه، فتعجب الناس من صنيع الحجاج فقالوا: يا أبا سعيد ماذا قلت حتى فعل الحجاج ما فعل؟ وقد كان أحضر السيف والنطع، فقال الحسن: لقد قلت: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا علي كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم.
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي كتابًا جاء فيه: إن الدنيا دار مخيفة، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء.
ودعاه يومًا ابن هبيرة،وكان يزيد بن عبد الملك قد ولي ابن هبيرة العراق وخراسان، وكان مع الحسن الشعبي،فسألهما ابن هبيرة في كتب تصل إليه من أمير المؤمنين فيها ما يغضب الله؛فتكلم الشعبي فتلطف في الكلام، فلما تكلم الحسن زأر كالأسد،وانطلق كالسهم،وانقض كالسيف، قائلاً: يا ابن هبيرة:خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة، إنك إن تك مع الله وفي طاعته، يكفك بائقة (أذى) يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوقٍ كائنًا من كان في معصية الخالق.
يتبع: =
ـ[أبو الخير صلاح كرنبه]ــــــــ[18 Aug 2008, 04:15 م]ـ
تتمة: = الإمام الحسن البصري
مكانته العلمية وأسبابها:
كان رضي الله عنه جامعًا، عالمًا، فقيهًا، ثقة، حجة مأمونًا فصيحًا، ويعد الحسن رضي الله عنه سيد أهل زمانه علمًا وعملاً، وأشدهم فصاحة وبيانًا، وقد برع ـ رحمه الله ـ في الوعظ والتفسير براعة لا تفاق، حتى كان فارس الميدان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:
نشأته في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فقد رضع من ثديها، كما رضع منها علمًا وفقهًا.
قربه من بيوت أمهات المؤمنين، فكان ذلك داعيًا لأن يتعلم منهنَّ.
لزومه حلقة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ، فقد أخذ عنه الفقه والحديث والتفسير والقراءات واللغة.
ولوعه بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقد راعه فيه صلابته في الدين وإحسانه في العبادة، وزهده في الدنيا، وقوته في الفصاحة والبيان.
من روى عنهم:
وقد روى الحسن رضي الله عنه عن عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء:عمران بن حصين، والمغيرة، وعبد الرحمن بن سمرة، والنعمان بن بشير، وجابر، وابن عباس، وابن سريع، وأنس، كما رأى عثمان وطلحة، وكان يحدث هو فيقول أنه أدرك سبعين بدريًا.
ما قيل فيه:
قال أبو بردة: ما رأيت أحدًا أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه
وقال أبو قتادة: ما رأيت أحدًا أشبه رأيًا بعمر منه.
وقال قتادة: ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه، وما جالست فقيهًا قط إلا رأيت فضل الحسن.
وقال الأشعث: ما لقيت أحدًا بعد الحسن إلا صغر في عيني.
وقال عطاء: ذاك إمام ضخم يقتدى به.
من كلامه رضي الله عنه:
كان الحسن رضي الله عنه يتكلم بالحكمة، قال أبو جعفر الباكر: إن كلامه أشبه بكلام الأنبياء، وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، وكان من كلامه:
- ابن آدم: إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
- فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحًا.
- ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
وفاته رضي الله عنه:
في العام العاشر بعد المائة الأولى وفي غرة رجب ليلة الجمعة وافقت المنية الحسن رضي الله عنه،فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجًا لموته رضي الله عنه، فغسل وكفن، وصلى عليه في الجامع الذي قضى عمره فيه؛داعيًا ومعلمًا وواعظًا، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة، فاشتغل الناس في دفنه ولم تقم صلاة العصر في البصرة لانشغال الناس بدفنه.
رحم الله أبا سعيد، وتقبله في الصالحين، وجمعنا الله به في دار كرامته.
انتهى ........ منقول