ملأه بالعلم بعد الأمية، والحكمة بعد الهوَج .. وجعلهم أمة عزوتها الإسلام لا عشائر متناحرة في بقعتها الصغيرة، ومنحهم بالإسلام دولة وأقطاراً من الأرض لم تكن لهم قبل ذلك، وتوعَّدهم إن تولوا أن يستبدل قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم؛ فحصل ذلك بمثل الأسد الهصور صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ثم من هزموا (رحمهم الله) التتار بعد ذلك .. والشعوبية معنى منتن نتيجة لمعنى منتن آخر هو العصبية العنصرية، وهما داءان في كل الأمم، وفي أمتنا يوجدان أكثر .. والحكم بالشذوذ من علم الخِلاف الذي هو أمشاج جوهرية نفيسة من علوم في الفقه والحديث والتفسير واللغة والفكر، وأصول كل هذه الأعباء .. وقد قلت لك (يا أُخو رِفْعَة):أنت في عافية من تلك الأعباء وإن سوَّدت وجهك بمداد غير مقروء!!)).
فسال لُعاب (أُخو رِفْعة)، وقال: يا زين كلامك ياحضري الله يعين ونتورخه.
فرَّق له المؤرِّخ، وبادر بكلمة فيها الحنين والانكسار والإيضاح برفق .. وقد حفظتُ من تلك الكلمة قوله:
((بارك الله في رفعة وأُخو رِفعة ونحن الآن إخوة متصالحون، والنبوغ عندك يا أخا العرب بدأ من الآن؛ فما دمتَ ستتورخ فأرجو أن تلاحظ ما يلي:
1 - الأنساب في الكتب المتأخرة منذ القرن السادس الهجري تضمَّنتْ أسماء قبائل جديدة الاسم.
2 - ردُّ تلك الأسماء إلى أصول معروفة قديماً أمر اجتهادي يدور بين الرجحان والتوقف، وإنما اليقين أنهم عرب سواء كانوا من عدنان أو قحطان .. وكثير من ذلك الاجتهاد من معاصرين بخرافات، واتحاد أسماء، واشتباه أماكن.
3 - صاحب هذا الإبهام أمور:
أولها: حقب الانقطاع في اتصال كتب النسب الأخيرة بمراجع قديمة.
وثانيها: ضياع كثير من موسوعات النسب التي ذكرها المؤرخون، وبعضها بلغ عشرين مجلَّداً (2).
وثالثها: الاختلاط، وعدم الثبات في المنازل بأسباب كوارث كونية كالجدب، أو بشرية كالحروب.
ورابعها:غلبة الاسم الواحد على فروع كثيرة من العرب جمعها الحلف لا قُربى النسب .. منها أحلاف مباشرة، ومنها أحلاف بأمر سلطاني عندما رجع العرب إلى عشائر، وتولى أمور المسلمين أعاجم مسلمون حصل على يدهم جمع كلمة المسلمين؛ فكان من إصلاحهم جمع العرب بالأحلاف، وإحياء آصرة الإسلام فيهم، وقام الفقهاء بدور في ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع أحلاف آل فضل .. وكان الغرض من الأحلاف جمع الفروسية العربية؛ لتكون قوة عسكرية للدولة غير عشائر متناحرة بينها؛ ولما هُزِم القلب والميسرة للجيش الإسلامي بحرب التتار ظهر حسام الدين ابن فضل رحمه الله صاحب الميمنة يقود العرب؛ فحملوا التتار على أكتافهم من الشام إلى ما وراء الفرات .. وهذه كناية أطلقها الفقيه الحنبلي الشيخ مرعي رحمه الله عن هزيمة العرب للتتار في البداية؛ فلم تقم للتتار بعدها قائمة .. وأكبر تلك الأحلاف حلف آل فضل في الشام، وحلف آل مرا من آل فضل في الحجاز ونجد، وحلف بني عُقيل في البحرين بالمفهوم القديم الذي يشمل الأحساء والخط والساحل.
4 - يُستثنى من هذه الأحلاف قبائل لازمت أماكنها، وبقيت في الأغلب على الأسماء القديمة كعرب السراة كلها منذ رجال ألمع في الجنوب، ثم ما يلبُّ بالسراة في السهول كشهران وناهس وأكلب وخثعم وسلول)).
فكان أُخورِفْعة أكثر إصغاء، وظهر الحبور والسرور في وجهه، وقال: ((بلَّيْتَ كبدي يا حضري .. جزاك الله خيراً، وسأحضر أهلي، وأنزل في قصر من قصوركم يالحضر، وسأجعل إن شاء الله مكتبتي في رَوْنَشٍ يقول به الهواء كِذيّْاه - وَبَرَقَ بأصابعه الخمس -، ونتورخ فيه)) .. ثم نهض؛ فقال له المؤرخ: ((لا تنس حفظك الله أن تصرف بعض وقتك لِتَعَلُّمِ المهم من علوم دينك، وتعلُّم ِ شيء من العلوم الأخرى التي تساعدك في التَّورخة، واحضرحلقات العلماء في المساجد والبيوت؛ فإن العلم يؤخذ جُثِيّْاً (3) على الركب .. فقال: ((إن شاء الله .. هذا أمر، وأمرك مطاع))، وانصرف أخو رفعة راشداً.
قال أبوعبدالرحمن: ولقد رثيتُ لأُخو رفعة، وأخذتني حميَّة الحق والخير والجمال للعالم المؤرخ الذي رمي به حظه في زمن أسهل بالمِشِيِّ - بكسر الميم والشين - فأخدج بأُخو رِفْعة يُتَوْرِخُ العلم بعجمة عامية، وفراغٍ أُمِّي؛ فالله المستعان؛ ولهذا حررتُ كتابي ((التاريخ والمسؤولية الفكرية)) الذي سيرى النور قريباً إن شاء الله.
http://www.al-jazirah.com.sa/167248/ar3d.htm
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكتبه لكم:
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -
هوامش:
(1) لسان الميزان 5 - 324 - 325 للحافظ ابن حجر رحمه الله، وقد حسَّن إسناده، واستوعب طُرُقَه.
(2) قال أبو عبدالرحمن: التذكير ههنا هو الصحيح، لأن الوصف لمقدَّر مذكّّر هو (كتاباً، أو جزءاً) .. أي بلغت عشرين كتاباً أو جزءاً مجلداً؛ ولو قلنا: (مجلَّده) لكان الكتاب كله كراريس مجلَّدة في سِفْر واحد.
(3) قال أبوعبدالرحمن: يجوز لغة جثياً وجثوّْاً.
المصدر http://www.aldahereyah.net/forums/showthread.php?p=15396#post15396